آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

الطّاقة والسياسة والديمقراطية (2)

 

عامر محسن ..

يعتبر تيموثي ميتشل أن المشكلة في النظرة الشائعة إلى الطّاقة والنّفط هي أنّنا، في العموم، ندرس «مال النّفط»، وليس النّفط في ذاته. بمعنى آخر، الباحثون يتتبّعون ويدرسون النّفط حين يتحوّل إلى أموال وأرصدة وصفقات تجري في النّظام المصرفي، فيتكلّمون عن أثر هذه التحويلات الماليّة وتأثير «الريع» على السياسة، الخ. ولكنّهم لا يدرسون النّفط بما هو «شيء» مادّي، له خصائص فيزيائية وتقنيّة تقرّر سبل استخدامه والإمكانات التي يتيحها.

 

علي سبيل المثال، إنّ الفحم ـــــ كما أسلفنا ـــــ قد أعطى البشرية إمكانية الاستخراج غير المحدود للطّاقة (في الواقع، كان البشر يستخدمون الفحم منذ أزمنة بعيدة، ولكنّ الاستخراج كان محصوراً بالمخزونات السطحية، وحين يزيد عمق المنجم على حدٍّ معيّن، يصبح الجّهد اللازم لضخّ المياه التي تتسرّب إليه أكبر من كميّة الطّاقة التي تحصل عليها من الانتاج. ولكن، مع اكتشاف المحرّك البخاري، الذي صُمّم أساساً لتشغيل مضخّات المياه في أقبية المناجم، فُتح باطن الأرض بالمعنى الاقتصادي وأصبحت مكامن الفحم الضخمة في متناول الإنسان). من جهةٍ أخرى، فإنّ اقتصاد الفحم يعتمد على شبكات نقل وسكك حديد وعمّال تنقيبٍ وجرفٍ بالآلاف، ما أعطى هذه الأعداد من العمالة المنظّمة قدرة ضغطٍ كبرى على السّلطات السياسية والماليّة في بلادها.

النّفط، بالمقارنة، هو سائلٌ، لا يحتاج إلى تحميل، ويعتمد استخراجه على الضغط الجيولوجي، وليس على الجهد البشري. لهذه الأسباب، فإنّ اقتصاد النّفط يحتاج الى عددٍ قليلٍ جدّاً من الأفراد (العمّال والخبراء) لاستغلاله ونقله وبيعه، ولا يستلزم تعاون قطاعٍ كبيرٍ من المجتمع. يمكن نقل كميّات كبيرة من النّفط، وبكلفةٍ زهيدة، في البحر على ناقلاتٍ هائلة فلا يهمّ لو كان يُنتج في الشرق الأوسط ويُستهلك في أوروبا، على عكس الفحم الذي ترتبط اقتصادياته بالجغرافيا، وتقلّ تنافسيته كلما ازدادت مسافة النقل. والنّفط، لأنّه سائل وغنيّ بالطّاقة، يمكن أن يُنقل في أنابيب بقوّة الضغط ـــــ والأنبوب الأوّل للنفط الذي تمّ تشغيله في بدايات القرن العشرين، في أميركا، بنته الشركات لتجنّب التفاوض مع سائقي الشاحنات وحتّى لا يكونوا تحت رحمتهم واضراباتهم، يروي ميتشل، ثمّ قلّدهم الرّوس في باكو.

 

أثر النّفط

 

تحويل أوروبا الغربيّة إلى استهلاك النّفط بدلاً من الفحم (في إنتاج الكهرباء، والتدفئة، إضافة إلى الترويج للسيارات الخاصة التي تسير على الغازولين) جرى بعد الحرب العالمية الثانية كجزءٍ من بناء النّظام الدّولي الجديد؛ وقد أُتيح ذلك عبر القروض الأميركية ومشروع مارشال الذي كانت يموّل مستوردات النّفط من الشرق الأوسط (وقد كانت كلفة شراء النّفط حينذاك ثاني أكبر البنود حجماً في برنامج المعونة الأميركية). هذا التحوّل الى النّفط، يحاجج ميتشل، هو ما «أمرَك» أوروبا الغربية وقضى على سلطة العمّال فيها وأوقف، بالتّالي، تطوّرها الديمقراطي، لتحكم شعوب أوروبا الغربية عبر نظامٍ أبويّ بواجهة ليبرالية. وحين انحدر الاقتصاد في السبعينيات والثمانينيات وساءت الأوضاع، تمكّنت السلطات في بريطانيا والبرّ الأوروبي من تفكيك أو هزيمة ما تبقّى من عمّال المناجم بسهولة نسبيّة بعد أن خسر الفحم دوره المحوري، ولم تخرج مذّاك كتلة عمّاليّة أو مهنية مماثلة تقدر على التّفاوض مع النّظام أو فرض شروطٍ عليه.

 

ماذا عن بلادنا؟ أثر النّفط، بحسب ميتشل، لا يقتصر على الاستعمار والمطامع في منابع الذهب الأسود (كما كتب جورج قرم، لو أنّ أهمية النّفط قد تبدّت للغرب في القرن الثامن عشر بدلاً من القرن العشرين، لجرت ربّما إبادة للعرب كما حصل مع العديد من «الأقوام الأصليّة» حول العالم، ولما اكتفى الغربيون بالهيمنة السياسية وخلق الأنظمة التابعة). من خصائص النّفط أنّ الشركات والدول التي تدير إنتاجه العالمي لديها، منذ الأربعينيات، مشكلة وفرة، وليس مشكلة ندرة. الإحتياطات التي تمّ اكتشافها في بداية القرن كانت كفيلة، لو تمّ استغلالها في وقتٍ واحد، بضرب السّوق النفطية وأسعارها وإخراج الكثير من الحقول المنتجة من العمل. من هنا، كان الهمّ الدائم للشركات الكبرى متمحوراً حول «خلق الندرة» في سوق النفط، والتحكم بالانتاج والأسعار حتّى تظلّ الصناعة مربحة. على سبيل المثال، حين بدأت أوروبا باستيراد كميات كبيرة من النفط الخام، كان هذا الإنتاج يأتي أساساً من الحقول «الجديدة» في الشرق الأوسط؛ وكلفة استخراج النفط في الشرق الأوسط أقلّ بكثير مما هي عليه في تكساس، فقامت الشركات بخلق بنية تسعيرية تسمح ببيع النفط العربي بسعرٍ يفوق كلفة استخراجه بأضعاف ـــــ حتى يظل النفط الأميركي اقتصادياً ـــــ واحتفظت الشركات بالفارق الكبير بين السعر والتكلفة على شكل أرباح.

 

من نفس المنطلق، يحاجج ميتشل، كان من الضروري لهذه الشركات الغربية أن تمنع صعود صناعات نفطية محلية في الشرق الأوسط وباقي دول الجنوب. لو خرجت صناعة نفطية مستقلة في العراق، وفي السعودية، وفي إيران، وغيرها في آنٍ واحد، لما عاد بالإمكان تنسيق الإنتاج والأسعار بشكلٍ مركزي (فكلٌ بلد سيعتمد السياسة التي تناسبه)، وستخرج الكثير من الحقول من دائرة الربحية، وستخسر أميركا عنصراً أساسياً من عناصر قوتها السياسية والمالية. لهذا السبب كان تاريخ النفط في المنطقة العربية، منذ الخمسينيات، هو تاريخ صراعٍ بين حكومات وحركاتٍ محلية تريد إدارة الثروة على المستوى الوطني، وبين شركاتٍ عالمية لها حسابات مختلفة، فتقنّن الإنتاج العراقي لصالح حقولها الأميركية، وتمنع العراقيين من استغلال حقولٍ نفطية اكتشفت في أرضهم وأبقتها هذه الشركات بوراً عن قصد، وتستخدم كل الوسائل ـــــ من الدبلوماسية والمؤامرات الى الجيوش والغزو ـــــ لمنعنا من استيراد تكنولوجيا النفط وتأصيلها وقيام شركاتٍ وطنية فاعلة ومستقلّة. هذه الأهداف السياسية للغرب، والتدخلات والانقلابات والحروب التي استلزمتها، كان لها أثرٌ على منطقتنا وتاريخنا المعاصر لا يقلّ أهمية عن ريوع النفط وأمواله.

 

العهد الشمسي

 

حتّى نكون واضحين: بعض التوصيفات الشعبية عن «نهاية عهد النفط» تبسيطية وغير واقعية. لن يحصل «انقلاب» واختفاءٌ للنفط والوقود الأحفوري فجأةً، خلال سنةٍ أو عشر، حين تصبح الطاقات البديلة اقتصادية أو نتيجة «نضوب» النفط من مكامنه. هذه العمليات تأخذ وقتاً طويلاً وأهميّة النفط ستستمرّ حتّى حين تدخل طاقات بديلة إلى السّوق بقوّة (طالما أنّه وقود سائلٌ ومفيد، ستظلّ له «قيمة استعمالية» في أي عصر، ومحرّك الإحتراق الداخلي يحتاج إلى النفط. وحتى لو راجت السيارات الكهربائية مستقبلاً، فإنّ عشرات ملايين السيارات التي تنتج في آسيا في كلّ سنة، وتسير على الغازولين، ستظلّ في الإستخدام لعقود قادمة ـــــ السيارة التي تصنع هذه السنة في الصين ستصدّر مستعملةً الى فييتنام بعد عشر سنوات، ثمّ ستجدها وهي تسير في تايلاند، وقد تتقاعد في الريف الكمبودي بعد نصف قرن من اليوم). ولكنّ عصر الوقود الأحفوري له حدّان، كما يقول ميتشل: أنّ الإحتياطات الموجودة لا بدّ لها أن تُستنزف في نهاية الأمر، ويصير استخراج النفط أكثر كلفةً وأقلّ اقتصادية بشكلٍ تدريجي، و ـــــ ثانياً ـــــ أنّ حرق مليارات الأطنان من النفط والفحم كان له ثمنٌ باهظ على البيئة قد يضع البشرية أمام خيارٍ بين اعتماد مصادر مختلفة للطاقة، والحدّ من انبعاث الكربونات في الجوّ، أو المخاطرة ببقاء الجنس البشري.

 

بتعابير أخرى، سيحصل ـــــ مع الزمن ـــــ ارتفاعٌ تدريجي في ندرة النفط وكلفة استخراجه بالتوازي مع انخفاض كلفة طاقاتٍ بديلة ومتجدّدة، تأخذ ـــــ شيئاً فشيئاً ـــــ مكان النفط والفحم والغاز في المزيج العالمي للطاقة. ومن هنا يُطرح السؤال الأساسي: ما سيكون شكل المنظومة السياسية في عهد «ما بعد الكربون»؟ وما هو مكان دولنا فيها؟ مثل الفحم والنفط، فإنّ الشمس والرياح والطاقة المائية ليست موزّعة على أقاليم العالم بالتساوي، وهي ليست قابلةً للشحن والنقل كالوقود السائل، وستكون هناك خريطةٌ جديدة للدول «الثرية بالطاقة» وتلك التي تفتقر إليها وسيعتاد العالم على حدودٍ وقواعد جديدة للنموّ الإقتصادي (خطة الصين لإنشاء شبكة عالمية لتوزيع الكهرباء، تنقل الطاقة من دولٍ ثرية بالطاقة المتجددة إلى دولٍ كثيفة السكان، يجب أن تُقرأ من هذا المنظار).

 

التكنولوجيا هنا أيضاً حاسمة: على عكس ما يتصوّر الكثيرون، فإن الصحراء العربية، رغم السطوع الدائم لشمسها الحارقة، ليست مكاناً «مثالياً» لزرع الألواح الشمسية. ألواح السيليكون، في الحقيقة، تنخفض كفاءتها بسبب عاملين: أوّلاً، الحرارة المحيطة، فكلما ارتفعت حرارة الجو عن الثلاثين درجة، انخفضت فعالية الألواح بشكلٍ كبير (حين تمّ بناء محطة شمسية في الأردن مؤخراً، اختار المهندسون صحراء صخرية مرتفعة، تقلّ الحرارة فيها عن الغور أو البادية)؛ والعائق الثاني هو الرمال، التي تتراكم على الألواح أو تنبعث في الجوّ على شكل عواصف غبار، فهي ايضاً تقلّل من استيعاب أشعة الشمس بصورةٍ فادحة. ولأنّ الصحراء ليس فيها الّا قيظٌ ورمال، فإنّ وضع ألواح سيليكون في صحراء السعودية قد لا يكون أكثر فعالية، من جهة الانتاج السنوي الإجمالي، من تركيبها في شمال أوروبا أو ألمانيا. في الواقع، فإنّ المكان المثالي لاستثمار الطاقة الشمسية، والموقع الأكثر اقتصادية لتكنولوجيا ألواح السيليكون، هو تحديداً في بلادنا: ساحل الشام وفلسطين ولبنان واليونان وجنوب تركيا، حيث الشمس تسطع طوال السنة والحرارة منخفضة نسبياً، ولا توجد صحراء وعواصف رمال.

 

ولكن الألواح الشمسية ليست إلّا طريقةً واحدة لـ «حصد» طاقة الشمس (هناك تكنولوجيا ألواح لا تعتمد على السيليكون، وكانت تنافسها لسنوات، وهي أقلّ تأثراً بالحرارة والجو الصحراوي، ولكن الفترة الأخيرة شهدت انحداراً قياسياً لكلفة ألواح السيليكون دون غيرها)، وهناك عدّة تقنيات تجعل من الصحراء مصدراً للطاقة، بل ومرتعاً للحياة والزراعة.

 

من الممكن توجيه أشعة الشمس عبر نظام مرايا يسخّن المياه وينتج البخار والكهرباء (والمحطات الشمسية الكبيرة التي تستثمر فيها اوروبا في المغرب هي من هذا النمط)، وهناك أفكارٌ لأبراجٍ شمسية عملاقة، وتصاميم تخلط بين انتاج الكهرباء وتحلية المياه والزراعة، وهي بالغة الأهمية لمنطقتنا ولكنّ الاستثمار فيها شبه معدوم، وقد لا تشهد النور قط إن لم تظهر على أرضنا حكوماتٌ تعمل لصالح شعوبها، وتسخّر مواردها في خدمتها، وتجد لها مكاناً في العالم (حتّى في الأمور الصغيرة، وفي بلدٍ تنقطع فيه الكهرباء باستمرارٍ مثل لبنان، لم يفكر أحدٌ بنشر شواحن كهربائية للهواتف والحواسيب تعمل على الطاقة الشمسية).

 

من هنا، فإنّ العصر الجديد للطاقة، والتقاطع بين السياسة والتقانة، قد يأخذ في بلادنا أكثر من شكل: هو قد يتيح للمنطقة العربية أن تصبح إقليماً صناعياً، غنياً بالطاقة الرخيصة وتنافسياً على مستوى العالم. كما أنّ طبيعة الطاقة المتجددة تسمح، إلى جانب المشاريع الكبرى، بإنتاج حاجة الفرد من الكهرباء على مستوى العائلة والمحلّة، بشكلٍ يزيد من استقلال الناس مقابل الدولة، ويفتح امكانيات للتعاون المباشر والاعتماد المتبادل بين أفراد المجتمع. من جهةٍ أخرى، من الممكن بسهولةٍ تخيّل مستقبلٍ لا يختلف كثيراً عن عصر النّفط الحالي، حيث تُقام مزارع الطاقة الشمسية على أرضنا، برساميل غربية وبالتقنيات التي تناسبهم، لتذهب الكهرباء إلى اوروبا لتغذّيها، فيما تحكمنا سلالاتٌ «شمسيّة» موالية للغرب، تلهو بأموال الريع وتترك للشعب الفتات والتخلّف.

 

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2017/01/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد