آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

مشروع التقسيم خطير… فهل على رؤوسنا الطير؟


د. سعيد الشهابي

إذا كان تقاسم النفوذ على العالم الإسلامي قبل مائة عام قد تم برغم إرادة الأمة في حقبة مظلمة من تاريخها، فأن مشروع تقسيم المقسم هذه المرة يتم الإعداد له وينفذ أمام مرأى المسلمين ومسمعهم، وفي حضور حكوماتهم على الصعيد الدولي، وبرغم امتلاكهم أموالا نفطية هائلة. بل أن مشروع التقسيم هذه المرة يتم بمشاركة بعض حكام دول المسلمين.

وإذا كانت اتفاقية سايكس ـ  بيكو التي تمر ذكرها المئوية الأولى هذا العام قد أدخلت العرب والمسلمين العهد الاستعماري الأسود، وأدت إلى احتلال فلسطين ومزقت العالمين العربي والإسلامي إلى كيانات صغيرة وفرضت حدودا مصطنعة بقيت مصدرا للتوتر والتناحر، فان النسخة الجديدة من تلك المعاهدة تأتي بعد أن تم تجهيل الشعوب وإلهاؤها وإبعادها عن قضاياها المحورية وإعادة صياغة الفكر العربي والإسلامي وفق خطوط الإقصاء والتمييز والتكفير والتمذهب. قبل مائة عام جاء مشروع تقاسم النفوذ في اوج قوة المشروع الامبريالي الاستعماري، وتداعي المشروع الإسلامي الذي كان يتمثل بالدولة العثمانية.

 أما المشروع الحالي فيأتي في ظروف مختلفة تماما، كانت، وما تزال، واعدة بنهضة عربية إسلامية لو لم تتضافر الجهود الإقليمية والدولية لمنع تحققها. سايكس بيكو فرضت في حقبة كانت حالة الاستقطاب الأيديولوجي والفكري تتمحور حول الانتماء لأحد التوجهين: الاشتراكي والرأسمالي. فالثورة البلشفية كانت على الأبواب فيما كانت الحرب العالمية الأولى تحصد أرواح الملايين من الغربيين. أما حالة الانهيار الحالية فتحدث في ظل تشرذم غربي وانكفاء على الذات لدى الدول ذات التأثير. لكنها تهرب من هذه الحالة إلى الأمام باستهداف العالم العربي بالتمزيق في ظل هيمنة الاستبداد والديكتاتورية وتغييب إرادة الشعوب، وتغول المشروع الصهيوني وتراجع الوضع الفلسطيني لأسباب داخلية وإقليمية.

هناك ظواهر ثلاث حدثت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي والعقدين الأولين من القرن الحالي، وجميعها تعرض لاستهداف خارجي منعه من التبلور على ارض الواقع. الأول ولادة المشروع الإسلامي في بعده السياسي الذي ساهم فيه حدثان كبيران. الأول نكسة حزيران في 1967 التي وفرت ظروفا لعلماء الأمة ومثقفيها لإعادة النظر في أسباب تلك النكسة. وكانت نتيجة تلك المراجعة بروز الظاهرة الدينية في إطار ما سمي «الصحوة الإسلامية» التي انطلقت منذ بداية السبعينيات. الحدث الثاني الذي لا يقل أهمية تمثل بالثورة الإسلامية في إيران في 1979، وبروز ما أطلق الغربيون عليه «الإسلام السياسي». وشهدت المنطقة العربية مخاضات عديدة خلال نصف القرن الماضي بحثا عن الهوية ورغبة في الوصول إلى مشروع سياسي يعيد للأمة هويتها ووحدتها كشرطين أساسيين للنهوض بأعباء تحريرها من الهيمنة الغربية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

تزامن ذلك مع تراجع النفوذ السوفياتي خصوصا بعد غزو أفغانستان، وانتهاء الحرب الباردة وبروز ظاهرة العالم المحكوم بقطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية.أما الظاهرة الثانية فتمثلت بالوفرة المالية نتيجة صعود أسعار النفط. بدأ ذلك في منتصف السبعينيات بعد حرب أكتوبر بين العرب والكيان الإسرائيلي، وبقي في حالة تصاعد مستمرة (مع حالات انخفاض اعتراضية)، حتى أقيمت إمبراطوريات مالية عملاقة في الدول النفطية. هذا المال النفطي كان بإمكانه إعادة هيكلة المجتمعات العربية بإشراكها في إدارة ثرواتها الوطنية والاستمتاع بنعمة النفط لتحقيق المزيد من التنمية والاستقرار والتلاحم. الظاهرة الثالثة تمثلت بثورات الربيع العربي، وكان ذلك استمرارا لظاهرة الصحوة الإسلامية التي ساهمت في تعميق الشعور بضرورة الحرية والاستقلال وإنهاء التبعية واستعادة الهوية وعقد العزم على التحرر من التبعة الثقيلة للعهد الاستعماري. فحين انطلقت تلك الثورات في 2011، كان ذلك بلورة لشعور الشعوب العربية بضرورة النهوض لاسترداد الحرية الكفيلة بتفعيل إرادة الشعوب وإنهاء الديكتاتورية والهيمنة الأجنبية. ولا شك أن عقودا من التراجع أمام العدوان الصهيوني قد دفع الكثيرين للتفكير بضرورة استعادة الهوية وتحرير الأرض وأن ذلك شرط لليقظة والصحوة من السبات العميق. ثورات الربيع العربي كانت تعبيرا عن الشعور المختزن لدى الأمة بعشق الحرية وكسر القيود التي كبلتها خلال الحقب الاستعمارية المتعاقبة. تلك الثورات بدأت بهدف تحرير الشعوب من الديكتاتورية والاستبداد ولكنها سرعان ما تحولت إلى طواحين أتت على الأخضر واليابس بدون رحمة. الانقلاب على الثورات تم بهندسة سياسية وأمنية واقتصادية أدت مفاعيلها إلى كسر إرادة الشعوب وإعادتها إلى مستنقعات الخلاف والاختلاف والتناحر والاقتتال الداخلي. ولا يمكن لجسد منخور أن ينهض بأعباء الحياة أو يواجه التحديات الكبرى. ومن أساليب ذلك الانقلاب حرف مسار الشعوب عن طريق التغيير وتوجيهه نحو مستنقع الاختلافات الفكرية والدينية والمذهبية، فنشبت حرائق لا يمكن إخمادها بسهولة. لقد ضحت أنظمة الاستبداد وقوى الثورة المضادة بوحدة الأمة وتلاحم الشعوب لهدف واحد: منع التغيير والتحول الديمقراطي في المنطقة.هذه الظواهر مجتمعة أدت إلى الوضع الحالي الذي تجاوز الخطر فيه وجود الأنظمة السياسية الرافضة للتغيير. فأصبحت دول العالمين العربي والإسلامي مهددة بالتقسيم بشكل مفزع.

كانت البداية مع السودان الذي فقد ثلث أراضيه بانفصال الجنوب قبل بضعة أعوام. ولم ترتفع صيحات الاحتجاج أو التأوه على تقسيم البلد العربي الأكبر من حيث المساحة. أن غياب ردة الفعل الشعبية ضد ظاهرة التقسيم عامل مشجع للتحالف الأنكلو ـ أمريكي المتحالف مع «إسرائيل» والذي يرى في وحدة أمة العرب تهديدا ذا إبعاد عديدة: أولها للاحتلال الإسرائيلي الذي يزداد تعنتا وتوسعا وإضرارا بالهوية التاريخية لفلسطين، ثانيها للنفوذ الأنكلو ـ أمريكي الذي يرى في وحدة الأمة عقبة أمام توسع نفوذه السياسي والعسكري، بالإضافة لانتزاع الأموال النفطية وتوجيهها للعواصم الغربية بعنوان الاستثمار. ثالثها: أن هذه الوحدة ستكون قادرة على لملمة شمل الشعوب العربية وإعادة توجيه بوصلتها نحو القضايا المصيرية ومشاريع التنمية والبناء والنهوض بالمجتمعات وتأهيل الشعوب للقيام بأدوار بناءة في تنمية بلدانها واتخاذ قراراتها بحرية، بعيدا عن املاءات الأطراف الطامعة في عالمنا العربي وهويته وثقافته ووزنه السياسي والإقتصادي.

في غياب الثقافة الجامعة لإطراف الأمة، ينزع الكثيرون للاستسلام لدعوات التقسيم، خصوصا إذا تصدرت حكومات عربية وإسلامية لتنفيذ ذلك التقسيم عمليا، بإعادة رسم الولاءات بما يناسب سياسة الحكام، بعيدا عن رغبات الشعوب ومصالحها. فبعد تقسيم السودان، جاء دور سوريا والعراق واليمن. فالأكراد لا يكفون عن إثارة مشروع الدولة الكردية المزمع إقامتها في مناطق تواجد الأكراد في العراق وسوريا وإيران وتركيا. وإذا سمح بقيام تلك الدولة فسيكون ذلك بداية ليس لتمزق تلك البلدان فحسب بل لغرس بذور التوتر في المنطقة لعقود عديدة قادمة. وفي غياب أنظمة الحكم القادرة على استيعاب المكونات العرقية والمذهبية في الكيان السياسي الواحد، تتوسع نزعات الانفصال، خصوصا مع وجود جهات داعمة لذلك التوجه. ومن المؤكد أن الدولة الكردية المزمعة ستكون متحالفة مع «إسرائيل» ومتحسسة جدا تجاه العرب.

أما سوريا فهي الأخرى مهددة بالتقسيم بشكل جاد. ولن تكون «داعش» وريثا شرعيا لأي من الإقاليم المزمع إقامتها، بل ستكون للدول الإقليمية أطماع في الكيانات الجديدة. فكما أن «المناطق الآمنة» التي أقيمت في العراق في التسعينيات كانت من أسباب التوجه نحو أقليم كردي منفصل، فأن طرح مشروع مماثل لسوريا خطوة أخرى على طريق تقسيم ذلك البلد الموغل في الحضارة والتاريخ. ومع استمرار الاحتقان السياسي والمذهبي في الشام، فسيكون أمرا مقبولا إقامة كيانات للفرقاء المتحاربين، تؤسس على أسس المذهب والعرق. وستختفي سوريا من خارطة العالم العربي إلى الأبد. ولن يكون اليمن بمنأى عن تلك الخطط. وقد بدا فعلا تنفيذ خطط تقسيم ذلك البلد العربي المسلم العريق، فالإمارات تسيطر على ميناء عدن وتبني جيشا قوامه 30 ألفا لمواجهة نفوذ اللاعبين الآخرين، وحضرموت إقليم يضم تنظيم القاعدة، بينما تبحث القوى الأخرى المشاركة في الحرب عن مناطق نفوذ أخرى في اليمن. وهكذا سيتحول هذا الإقليم العربي المسلم الكبير إلى دويلات صغيرة على غرار العراق وسوريا. ولن تكون مصر وتركيا وإيران بمنأى عن تلك المحاولات. أهذا ما كان يحلم به دعاة المشروع الإسلامي؟ أهذا ما كانت ثورات الربيع العربي تتطلع إليه؟ أم أن هذا هو مشروع سايكس بيكو الثانية للعام 2017 بعد مائة عام على الأولى؟ ألم يحن الوقت للاستيقاظ وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الأمة الممزقة؟ أن التاريخ لا يرحم وسيلعن من يساهم في الفتن والمؤامرات ويبث روح الخنوع والاستسلام، ويسكت على تقسيم المقسم وتمزيق الممزق.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/05/08

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد