آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

أمريكا لم تتغير سياساتها فلماذا التقارب معها؟


د. سعيد الشهابي

في يوم ما كانت أمريكا تمثل للنخبة العربية رمزا للامبريالية العالمية والهيمنة والتدخل والغطرسة. وفي يوم ما كان المثقف العربي يربأ بنفسه عن الاتهام بأنه «عميل» لأمريكا. وفي يوم ما أيضا كانت هناك توجهات «تقدمية» خصوصا لدى النخب تعادي الغرب وما يمثله من تركة استعمارية ثقيلة وانحياز ضد العرب. هذا اليوم ليس تاريخا سحيقا بل حقبة معاصرة لم يمر عليها سوى بضع سنوات. فجأة، وبدون مقدمات، تغير المشهد، فأصبحت أمريكا «صديقة» للبعض، أو طرفا سياسيا «يحسن غض الطرف عنه»، أو لاعبا أساسيا لا يمكن تجاهل وجوده. الغرب الاستعماري لم يكن يوما صديقا للعرب والمسلمين أو لأي من الشعوب التي استعمرها في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا. صحيح أن أمريكا لم تكن طرفا مباشرا في الاستعمار الغربي الذي سيطر على بلدان عديدة في القرن الماضي، ولكن عودتها القوية للفضاء العالمي بعد الحرب العالمية الثانية بدأت حقبة جديدة أصبحت أمريكا فيها تلعب دورا بارزا له أثر مباشر على الوضع العربي، خصوصا بعد حرب 1967. ففي غضون تسعة أعوام فقط انقلب الموقف الأمريكي الذي وقف ضد العدوان الثلاثي على مصر في 1956 ليتحالف مع الكيان الإسرائيلي الذي احتل فلسطين وشرد أهلها. اليوم تقف واشنطن مع تل أبيب، ولا تدعمها فحسب، بل تضمن تفوقهــــا العســــكري على الدول العربية. ما الذي تغير؟ ثمة حقائق يجدر ذكرها لتوضيح معالم الحقبة الحالية من التاريخ العربي الذي لا يمكن فصله عن إشكالية التحالف الأنكلو-أمريكي-الإسرائيلي.

الحقيقة الأولى أن تحولا كبيرا في المزاج العربي العام حدث في السنوات الأخيرة بفعل المال النفطي، وازداد وضوحا بعد قمع ثورات الربيع العربي. هذا المزاج كان «تقدميا» و «ثوريا» و «عروبيا» و «إسلاميا»، لكنه فقد أغلب هذه الخصائص نتيجة هندسة سياسية معقدة بدأت تتبلور بعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية. ربما فكر مخططو تلك العمليات أنهم سوف يقضون على الهيمنة الأمريكية خصوصا على العالم العربي بعد أن أيقنوا بأنها أحد أسباب شقاء هذه الأمة. ويمكن تعميم الادعاء بأن أغلب مصلحي القرن الماضي كانت لديهم نظرات سلبية تجاه أمريكا. ولذلك يتم استهداف مفكر إسلامي كبير كالسيد قطب بسبب مواقفه المعادية لأمريكا وأطروحاته الإسلامية الواعية بعد تجربته كطالب في ذلك البلد في مطلع الخمسينات. وقد عبر الزعيم الإيراني، آية الله الخميني، عن ذلك الشعور عندما اعتبر الولايات المتحدة الأمريكية «الشيطان الأكبر». وبرغم التعدد المذهبي إلا أن ذلك التوصيف لم يرفض من قبل أغلب العرب والمسلمين. وقد عبر الوجدان العربي عن ذلك برفضه المطلق للتقارب أو التعاون مع أمريكا. وعندما حدث التدخل العراقي في الكويت في 1990 أدى ذلك إلى تجسيد عملي لذلك الرفض. فما أن أعلن قيام «التحالف» الهادف لـ «تحرير الكويت» من القوات العراقية حتى تبلور موقف شعبي غير مسبوق، بالرفض المطلق لذلك التدخل. فخرجت المظاهرات والاحتجاجات في أغلب البلدان العربية، من المغرب إلى باكستان. بل أن أنظمة محسوبة على الغرب وجدت نفسها، تحت الضغط الشعبي، مضطرة للنأي بنفسها عن الحرب التي كانت تخطط ضد العراق، فقد اعترض على التدخل الأجنبي كل من الأردن بزعامة الملك حسين واليمن برئاسة علي عبد الله صالح ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وكذلك الجزائر. وبرغم وجود الإمبراطورية الإعلامية الواسعة الداعمة لذلك التدخل، ألا أن الأمة كانت لديها حصانة خاصة، فلم تتأثر بذلك الإعلام. وبرغم اختلاف الكثيرين مع سياسات الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، إلا أن تلك الأزمة أظهرته زعيما مجسدا للموقف الشعبي العربي الرافض للتدخل الأمريكي.

الحقيقة الثانية: أن التدخل الأنكلو – أمريكي في الكويت كان بداية لمرحلة جديدة اتسمت بحالة من الاستقطاب. وهنا يصبح دور ما يسمى «الأفغان العرب» محوريا في بلورة تطورات تلك المرحلة التي استمرت عشر سنوات (ما بين الحرب الأنكلو أمريكية الأولى ضد العراق ومفاعيل حوادث أيلول التي اتصلت بتدخل ذلك التحالف مرة أخرى في المنطقة لإسقاط نظام صدام حسين في 2003. عقد كامل كان هو العمر الحقيقي لتنظيم «القاعدة» الذي استهدف الغرب بقيادة أمريكا. كان ذلك ردة فعل شديدة على الحرب النوعية التي استهدفت القوات العراقية في الكويت، وجسدت مجزرة «المطلاع» واحدا من أبشع فصولها. وسيظل النقاش متواصلا حول ثنائية القاعدة – أمريكا، حول تشكيل التنظيم وبلورة عقيدته السياسية ولماذا استهدف أمريكا، وأي الطرفين هو الذي بدأ الحرب على الآخر. فربما كانت الأمور ستتخذ منحى آخر لو لم يمارس الأمريكيون وحلفاؤهم الإقليميون ضغوطا على حكومة الرئيس برهان الدين رباني في 1992 لطرد «الأفغان العرب»، فكان من نتيجة ذلك سقوط حكومته وقيام حركة طالبان وتحول أفغانستان إلى منطلق لعمل تنظيم «القاعدة» التي كانت تستهدف الولايات المتحدة بشكل أساسي، ولم تكن معنية بقضايا الاختلافات المذهبية داخل الجسد الإسلامي. وهذا ما أكدته الوثائق التي حصل عليها الأمريكيون بعد قتل زعيم التنظيم، أسامة بن لادن، في 2011، وكذلك في الرسائل التي تبادلها مع الزرقاوي وبقية ممثلي الأقاليم.

الحقيقة الثالثة: أن حوادث أيلول الإرهابية المنسوبة لتنظيم «القاعدة» كانت نقطة تحول كبيرة، ليس بالنسبة لتنظيم «القاعدة» فحسب بل للعالمين العربي والإسلامي. فقد اتخذ التحاف الأنكلو-أمريكي –الإسرائيلي مع بعض الأطراف العربية قرارا حاسما بسحق تنظيم «القاعدة». وهنا استخدمت أساليب عديدة: أولها القوة العسكرية المفرطة التي دكت جبال تورا بورا بالصواريخ والقنابل بشراسة غير مسبوقة، وبذلك قطع رأس التنظيم عن جسده تماما، بالإضافة لاستهداف أفرادها بشكل متواصل حتى اليوم، ثانيها التدخل المباشر لإعادة صياغة مشروع التنظيم بعيدا عن استهداف الغرب أو حلفائه. وهنا استخدم الدين سلاحا ضد التنظيم، فتعاونت أجهزة استخبارات الدول المعنية لتوجيهه نحو الداخل العربي والإسلامي، واستخدمت التقنيات الفكرية الحديثة لإعادة بلورة الفكر وأولويات العمل المؤسس عليه. وبذلك تم القضاء على بقايا «الفكر التقدمي» الذي يدعو للنضال المستمر ضد «الامبريالية « و «الرأسمالية» والذي تبنى قضية فلسطين واعتبرها إحدى قضايا الفكر التقدمي. كما استهدف مشروع «الإسلام السياسي» الهادف لتفعيل منظومة سياسية تهدف للبدء بإشاعة أجواء الحرية وإقامة العدل وتفعيل مبدأ الشورى، وإعادة الدور لـ «العقل» في التشريع والفقه، واستبدل بمشروع يتبنى البدء بتفعيل أحكام الشريعة وإقامة الحدود حالما توفرت الفرصة لذلك، ويؤسس على قداسة النص الموروث عن السلف، وينحي العقل عن دائرة التشريع، ويؤسس عقيدته السياسية على «تطهير» الدين من ذوي الاتجاهات المذهبية المخالفة، وينطلق في «الجهاد» بالبدء باستهداف «العدو القريب». من نتائج هذا المنحى الفكري تأجيل المعركة مع «العدو البعيد». وهذا يقتضي مهادنة القوى الحكومية أو الإقليمية حتى حين. وبذلك بدأت طواحين دونكيشوت تعمل عملها في جسد الأمة بتمزيقه وتفتيته وفق مقولة الانتماء المذهبي.

نتيجة ما سبق تقود للاستنتاج بان الحساسية العربية المفرطة ضد الولايات المتحدة وسياساتها قد تراجعت كثيرا، وأصبحت الأنظمة العربية تسعى للتقارب مع الولايات المتحدة وكسب ودها. وبسقوط جدران المفاصلة بين الأنظمة العربية والولايات المتحدة تشعر الشعوب بانكشاف ظهرها، وقد لا تستطيع الصمود طويلا أمام تحديات رفض الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم. فحين تتسابق الأنظمة لضمان العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويسعى بعضها لتوقيع صفقات عسكرية عملاقة تصل قيمتها إلى 300 مليار دولار فهذا يعني أن ماكنة الشر التي ما فتئت تعيث بقيم الأمة قد حققت أهدافها، وأن الأولويات قد تشوشت في أذهان أصحاب القرار.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/05/15

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد