آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

يوم «اعتدينا» على الرّياض


عامر محسن

«كم يشعر لبنان واللبنانيون بالوحدة واليتم في هذا الوقت كون المملكة السعودية غاضبة عليهم وعلى ابنها وابن لبنان البار سعد رفيق الحريري»
وليد جنبلاط

في رواية نيل غايمان «آلهة أميركيّون» ــــ تمّ تحويلها هذه السنة إلى مسلسل تلفزيوني ــــ يكون بطل الرواية في السّجن وجاره، سجين مسنٌّ اسمه «لوكي»، يعلّمه دروساً عن السّجن وعقليته (السّجن هنا، بالطّبع، هو توريةٌ للحياة، ويتبيّن لاحقاً أنّ السّجين المسنّ لم يكن سوى الاله النوردي «لوكي»، اله الحيلة والخدع والفوضى).

من الأمور الأساسيّة التي يلقّنها «لوكي» للسجين الشابّ أن يفكّر حصراً بحكمه هو، وعدد السنوات التي عليه أن يقاسيها ويجتازها، وأن لا يفكّر بالحكم الذي يمضيه غيره أو يسأل أو يقارن. النصيحة الثانية كانت أن لا يستمع إلى رواية أيّ سجينٍ عن نفسه، فالجميع هنا سيتبيّن أنّه مظلومٌ وقصّته تدمي القلب. هو إمّا بريءٌ افترت عليه الشرطة وورّطته، أو ظلمه المدعي العام وأضاف تهماً لم يرتكبها، أو أنّ القدر قد أرسل إليه قاضياً غليظ القلب حكم عليه بعقوبةٍ جسيمة، أو هو يقضي سنواتٍ لجريمةٍ يراها تافهة، فيما المجرمون الكبار أحرار في الخارج يمرحون وينعمون...

يمكن تطبيق المبدأ ذاته على نظرة الحكومات والهويات إلى ذاتها، فلا حربٌ تشنّ إلّا وتسندها مقولةٌ «دفاعيّة»، وكل غزوٍ له من يبرّره ويجمّله؛ ولكن في تعامل بعض الحكومات والنخب الخليجية مع بلادنا ما يتحدّى أيّ منطق. السياسات العدائيّة في المشرق، والتدخّلات المدمّرة، والتهديدات و«إعلان الحرب» (وبطانة النظام في السّعوديّة، مثلاً، لا تعرف الاتّزان في الخصومة، بل تقفز مباشرة إلى تهديدنا بالتدمير والإبادة والإفناء)، هذه العدوانيّة يوازيها، في الآن ذاته، خطاب «مظلوميّة»، يعتبر أنّ الخليج ضحيّةٌ تحت التهديد، وأنّنا نعتدي عليهم ونظلمهم؛ وكأنّ كلّ قرارٍ داخليّ نأخذه، وكلّ فعلٍ نمارسه على أرضنا، وكلّ علاقةٍ وتحالف لنا، هي عدوانٌ صارخ عليهم ــــ بل ويبدو أنّ بعضهم يصدّق فعلاً ما يقول (فيما الدّخان يتصاعد من مدننا، واليمن تحت القصف والحصار، ومثقفوهم ينادون علناً بتمويل المزيد من الميليشيات على أرضنا، وبثّ المزيد من الخراب في سوريا ولبنان).

الامبريالية العرجاء

منطق القوي هذا ليس غريباً على العلاقات الدوليّة، فقد اعتاد الصغار في العالم أن تضع لهم الإمبراطوريّات «قواعد اشتباكٍ» من هذا النّوع: لو جرّبتم الاستقلال فهذا اعتداء علينا، لو اعتمدتم نظاماً اشتراكياً فأنتم تهديد، لو حاولتم التوحّد فأنتم خطر، أن منعتم استيراد الأفيون فأنتم تنتهكون قواعد التجارة... ومن مهام المثقّف الغرباوي في بلاد الجّنوب أن يلتقط ــــ بحساسية ــــ هذه القواعد في كلّ عصرٍ، ويمنطقها ويبرّرها، ويطالب شعبه الالتزام بها. المشكلة هنا هي أنّ السّعوديّة ليست أميركا، ولا هي الأمبراطورية البريطانيّة، لكي تفرض «عقلانيتها» بالقوّة وتجعلنا نخضع لمنطقها وتروّضنا على قبوله. من هنا، توجد هوّةٌ معتبرة بين نظرة النظام السعودي إلى نفسه، وخطابه الهجومي، وبين واقع الأمور. هل هم فعلاً يهدّدون «حزب الله» بالقوّة مثلاً؟ في هذه المرحلة تحديداً وبعد كلّ ما جرى؟ أو أنّ السعودية قد بنت (على طريقة الصين) بنى تحتيّة وسكك حديد وشراكات اقتصادية مع بلادنا، ويفترض بنا أن نخاف من قطعها؟

هنا المسألة تحديداً. فالمملكة، على الرغم من قدراتها الماديّة وادّعاءات الزعامة وخطابها «الامبريالي»، لم تبنِ أيّ قدرٍ من الشراكة والتعاون، وتراكم «قوة ناعمة» في البلاد المجاورة تعطيها النّفوذ الذي تتوهّم أنه مستحقٌّ لها. إنفاق المملكة لم يشترِ سوى أفراد، إعلاميين وسياسيين ورجال أعمال ومصارف وعقارات، هم وحدهم «شركاء» الرياض ومن يدين لها بشيء. حتّى التمنين بالعمالة اللبنانية في الخليج أصبح سلاحاً صدئاً، بعد أن استنفدت الرياض، أصلاً، مختلف الأسلحة (الشرعي منها وغير الشرعي) في السنوات الماضية: كلّ مغتربٍ له قريبٌ أو جار فكّر، في يومٍ من الأيّام، بدعم حزب الله قد طُرد أصلاً من السعودية والإمارات، ولم يتبقَّ أمام هذه العواصم سوى طرد من هو قريبٌ لها، وخلق الشقاق بين موظفيها، واحتجاز رجالها وممثليها. التجارة بيننا وبينهم هي لصالحهم، والأملاك السعودية في لبنان هي أكثر بكثير من أملاك اللبنانيين في السعودية، فما معنى التلويح بالعقوبات؟ (لا ريب في أنّ مئات المواطنين في لبنان قد اختاروا، مسبقاً، أملاكاً وشققاً لأثرياء وأمراء سعوديين في البلد، لينتقلوا إليها فوراً حين يبدأ «العقاب» السعودي).

أمّا عن الحرب مع إسرائيل، فهي قادمةٌ لا ريب، ولكن ليس بتوقيت آل سعود وخيارهم. الكيان الصهيوني، في النهاية، فيه تنافس سياسي وأحزاب واستطلاعات رأي؛ وفكرة أن تشنّ حكومةٌ حرباً فجائية لا أحد يعرف منتهاها، تكون نتيجتها إمطار مدن الكيان بالصواريخ، وتدمير منشآتٍ حيوية وتخريب الاقتصاد وإحراق منصّات الغاز وموت الجنود على الجبهة بالمئات ــــ من دون سياقٍ مناسبٍ أو سببٍ طارىء يبررها للجمهور ــــ ما هي إلّا ضربٌ من الانتحار السياسي. بتعابير أخرى، الهيمنة السعوديّة، بالقوة أو بالرشوة، غير ممكنة ومقوّماتها غير موجودة. ولكن، إن كان السؤال: هل المملكة قادرة على الأذية والتخريب؟ فالجواب هو بالإيجاب، وقد شهدنا الدليل ساطعاً في العراق وسوريا واليمن. الرياض قادرةٌ على ظلم بعض اللبنانيين، الذين شاء سوء طالعهم والحاجة في بلدهم أن يجدوا أنفسهم مغتربين لدى حكومة لا تعرف المروءة، وهي قادرة على شنّ حربٍ على الليرة اللبنانية وشلّ عمل الحكومة، بل وقد تتمكّن من تحريك ميليشياتٍ وسلفيّين مسلّحين، وإضرام النار في مخيّمات الفقراء وصيدا أو طرابلس ولكن، بالمعنى السياسي الأشمل، بمَ ستنفعهم كلّ هذه الأمور؟ أولمّ يتعلّموا من التجربة والسوابق؟

من يعتذر لمن

في مقالٍ سابق، ذكرت موضوع العداوة بين الخليج وإيران، وكيف تتمّ ترجمته على أرضنا، ولم يكن الكلام تعليقاً على إيران ذاتها وسياساتها وماضيها، فهذا موضوعٌ آخر. الرّسالة كانت إلى النخب الحاكمة في الخليج بأنّ لا «تبخسوا» الشّعوب شرف نضالها، وأنّ من يعارض المعسكر الأميركي من لبنان إلى اليمن ــــ ويثير حنقهم وغضبهم ــــ هي قبل أيّ شيءٍ فئات شعبية تنتمي إلى هذه البلاد، وهي قد بنت نفسها عبر مسيرة نضالٍ وتضحية، وأنّ من ينقدها بفوقيّة في الوسط السياسي والثقافي العربي لن يصمد يوماً أمام عُشر ما تحمّله هؤلاء المقاومون، وهنا الفارق. حجّة إيران هنا تشبه الحجة الإسرائيلية القديمة، عن أنّ عبد الناصر هو سبب عداء العرب لإسرائيل، أو أنّك إن أزحت «فتح» من الصّورة فسينسى الفلسطينيّون أرضهم. هم يعتقدون أنّه، لو لم تكن إيران وثورتها، لكان أهالي المنطقة الذين اضطهدتهم الرياض وإسرائيل، وفجّرت مدنهم وصدّرت إليهم الشرور، يحبّون محمّد بن سلمان اليوم ورعايا مطيعين له. حتّى حين يحاصرك العالم ويحاربك، كما جرى في اليمن ولبنان وغيرها، ولا يساعدك في الدفاع عن نفسك إلّا المهمّشين والدّول المنبوذة في العالم، فإنّ ذلك يعدّ ــــ في عرف حكّام الخليج ــــ «غشّاً» وتعدّياً على قواعد اللعبة (إذ يجب أن تقاتل دوماً ويداك مقيّدتين خلف ظهرك، وإلّا غضب الأمير).

بالمعنى ذاته، بدلاً من أن تلتهي أنظمة الخليج بحديث العداء مع إيران، وخطرها عليهم، وتهديدها الأخطبوطي، ومظلوميتهم المحزنة، عليهم أن يتنبّهوا أوّلاً إلى مشكلتهم معنا نحن، الشّعوب التي تعرّضت لظلمهم في العقود الأخيرة، والتي تدفع إلى اليوم أرواح أبنائها ثمن سياسات آل سعود وشركائهم. من فلسطين إلى العراق، ومن مصر إلى تونس والجزائر، لا يبدو أنّ أنظمة الخليج تفهم مقدار النّقمة التي تراكمت ضدّهم، وقناعة الكثير من النّاس بأنّ لا تقدّم ولا تحرير ولا سلام ممكن، ومثل هؤلاء يتحكّمون بالثروة ويشعلون البلاد على هواهم. هذه الحكومات تقدر على التحكّم بالإعلام، ومنع الخطاب النقدي ضدّها، وإظهار الواقع كما تريد، ولكن من يعيش «على الأرض» ويعاني ــــ بالتجربة المباشرة ــــ من أفعال آل سعود يعرف جيّداً قاتله ولا يحتاج إلى مثقّفٍ في بيروت أو القاهرة يعلّمه من هو عدوّه. لو أراد آل سعود، فعلاً، أن ينعموا بالسلام وصداقة الشعوب، فهم من يجب أن يبدأ بالاعتذار، وأن يدفعوا التعويضات لليمنيّين والعراقيين والسوريين، وأن يتعهّدوا ــــ صدقاً ــــ بأن يكفّوا يد الدمار عن إقليمنا وأن لا يعاملوا شعوبنا مثلما يعاملون ــــ اليوم ــــ سعد الحريري.

السرّ في اليمن

حتّى تتضّح الأمور في السعودية وفي المنطقة، أكثر كلام الإعلام والسياسيين لن يكون صادقاً. على سبيل المثال: في لبنان، فريق الحريري الذي ينادي بعودته إلى البلد والحكم، ولا يصادقون على استقالته ويوحون بأنّه محتجز في الرياض، لا يفعلون كلّ ذلك حرصاً على الكرامة الوطنيّة واستقرار البلد. هؤلاء، من مستشارين سياسيين كعقاب صقر وصولا إلى مسؤولي الإعلام في «المستقبل»، لديهم مصلحة مباشرة وحرجة في عودة سعد الحريري وسلامته، فهم ليسوا «فريق السعودية» بل «فريق سعد»، ولو تمّ استبداله أو إخراجه من السياسة، فهم سيعودون إلى منازلهم ويخسرون كلّ شيء. ولو تلقّوا تطمينات غداً بأنّ مناصبهم محفوظة ستجدهم في اليوم التالي يضربون بسيف ابن سلمان ويقرعون طبول الحرب.

وسط هذه الفوضى وانعدام اليقين، جبهة اليمن تمثّل وحدها الحقيقة العارية لنظام العالم وشروره، حيث لا شرح يلزم ولا خطاب، والصّمت الذي يحيط بالمجزرة أقوى وقعاً من الكلام. لا توجد في العالم اليوم قضيّة أحرج من قضيّة اليمن، لا يوجد ظلمٌ أفدح من الظّلم الواقع على اليمنيين؛ فيما تواطؤ دول الشرق والغرب، وصمت الصحافة «الديمقراطية»، وتظاهر النخب بالعمى، يعلّمك كلّ شيءٍ عن مفهوم العدالة في العالم، وعن النّظام العالمي الذي يريد لنا أن نمتثل اليه (بل وتجد، وسط المجاعة والقصف والحصار، «مثقّفاً» عربيّاً لديه الوقاحة لكي يتباكى على «البراعم الديمقراطية» التي رآها تتفتّح عام 2011، ويكون تعليقه الأساسي هو التأسّف على أنّ الليبراليين والتروتسكيين لم يحكموا اليمن). تذكرون جميعاً الصّاروخ البالستي الذي أطلقه اليمنيون ضدّ الرياض قبل أسبوع، وقامت من أجله الدنيا ولم تقعد، واعتبرته الرياض إعلان حربٍ من ثلاث دول (لبنان واليمن وإيران) عليها. حسنٌ، كم من بريءٍ سعوديٍّ قد قُتل بسبب هذا الصّاروخ، ونتيجة كلّ «اعتداءاتنا» المستمرّة على المملكة؟ صفر. بالمقابل، هل تعلمون سبب إطلاق هذا الصّاروخ؟ (وهو بالمناسبة، لا علاقة له بخطاب سعد الحريري واستقالته وبارانويا الرياض من إيران) ما حصل هو أن اليمنيّين استهدفوا الرياض ردّاً على غاراتٍ وحشيّة، في اليوم نفسه، ضربت صعدة وقتلت عائلات وعشرات الأبرياء، من بينهم العديد من الأطفال. كم كُتب عن «صاروخ الرّياض» في الإعلام وميادين السياسة، ومن عرف ــــ بالمقابل ــــ بصغار اليمنيّين الذين قتلهم الطيران السعودي؟ هذا، تحديداً، هو لبّ المسألة برمّتها.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2017/11/13

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد