آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. عصام نعمان
عن الكاتب :
محامٍ لبناني منذ 1973 يحمل الإجازة في الحقوق ، شهادة الدكتوراه في القانون العام ، شهادة الماجستير في العلوم السياسية ، وشهادة البكالوريوس في الإدارة العامة أستاذ محاضر في القانون الدستوري ، كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية 1979 – 1989

نزوات ترامب تتبدّد مع انحسار سطوة أمريكا في العالم


د. عصام نعمان
 
كثيرون في الولايات المتحدة يرفضون أن يقرنوا اسم ترامب بلقب «الرئيس». يدعونه دونالد ترامب فقط. بعضٌ من هؤلاء يتناوله بالشتيمة والأوصاف المهينة ، فلا يتورع هو عن الردّ بالمثل.

صحيفة «يو أس آي توداي» اعتبرته «غير أهل حتى لتنظيف المراحيض في مكتب الرئيس السابق باراك أوباما، أو تلميع حذاء الرئيس السابق جورج بوش الابن». هذه الصحيفة المعروفة بتجنّبها استخدام مفردات قاسية فعلت ذلك تحت وطأة ما اسمته انحطاطاً متزايداً في تغريدات ترامب الفظّة، ومنها زعمه أن السيناتورة الديمقراطية كريستين جيليبراندا كانت مستعدة لإقامة علاقات جنسية من أجل تمويل حملتها الانتخابية!

دولة عظمى يديرها رئيسها بتغريدات، بل بنزوات يومية على «تويتر»، ويتخاطب سياسيوها بأقذع الألفاظ في وسائل الإعلام، هل يمكن أن تؤخذ على محمل الجدّ عندما يعلن هذا الرئيس أو أحد مسؤوليها موقفاً أو سياسةً يعتزم انتهاجها؟

يثير هذا الوضع الغريب داخل أمريكا نفسها كما في علاقاتها مع الخارج ملاحظات وتساؤلات كثيرة، أبرزها ثلاثة:

أولها، إن الولايات المتحدة تجد نفسها لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية في عالم لم يعد أمريكياً، بمعنى أن سيطرتها ونفوذها أصبحا في حال انحسار مطّرد نتيجةَ نجاح دول كبرى ومتوسطة، وحتى صغرى في تحرير إرادتها من سطوة ذلك العملاق الذي كان مستأسداً. ولعل أبلغ شاهد على ذلك العزلةُ التي تجد واشنطن نفسها فيها اليوم نتيجةَ قرار ترامب العدواني، الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ»إسرائيل» ونقل سفارته إليها. ذلك أن الدول العربية والإسلامية، ودول الاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين، ناهيك عن دول عدّة آسيوية وأمريكية جنوبية وإفريقية جاهرت برفضها مخالفة ترامب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
ثانيها، إن أركاناً نافذين في الدولة الأمريكية العميقة ووسائل الإعلام النافذة أبدت امتعاضاً وتبرماً بقرار ترامب المتهور، كونه يحرم واشنطن، بلا مسوّغ، دورها التقليدي القديم كراعٍ ووسيط في الصراع العربي- الإسرائيلي.

ثالثها، إن نزوات ترامب، من بين عوامل أخرى فاعلة، وضعت الولايات المتحدة في وضع غير مسبوق من حيث مواجهة عدّة أزمات وتحديات كبرى في أن: تهويد القدس في وجه عالم العرب والمسلمين الساخطين؛ مستقبل سوريا بعد اندحار «داعش» وأخواته من جهة، ومن جهة أخرى اشتداد ساعد الحكومة المركزية في دمشق، وإصرارها على تحرير المناطق القليلة الباقية خارج سيطرتها، ما يؤدي إلى استعادة سوريا وحدتها وسيادتها؛ انهيار المشروع الكردي الانفصالي في العراق وأرجحية انهياره في شمال سوريا أيضاً، الأمر الذي أفقد واشنطن أحد افعل أسلحتها الإقليمية ؛ إخفاق السعودية وحلفائها في تطويع اليمن ووضعه تحت عباءة نفوذها، والتداعيات الناجمة عن استمرار الحرب وما تتسبّب به من مجازر وتدمير ومجاعة وأمراض؛ استقـواء أطــراف محور المقاومة، سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي أثار قلق «إسرائيل» مـن إمكانية بناء جبهة مقاومة لبنانية – سورية على طول حدودها مع لبنان وسوريا شمالي فلسطين المحتلة؛ إمعان كوريا الشمالية في تحدي محاولات أمريكا الرامية إلى إحباط مشروعها النووي، خصوصاً بعد تمكّنها من النجاح في تجريب صواريخ بالستية يصل مداها إلى الولايات المتحدة نفسها.

في غمرة هذه الأزمات والتحديات، ينبري ترامب إلى افتعال أزمة جديدة مع إيران، تصبّ مزيداً من الزيت على نار الصراع بينهما. ففي خطاب مفاجئ ألقته في قاعدة عسكرية في واشنطن، استعرضت سفيرته في الأمم المتحدة نيكي هايلي مجموعةً من بقايا ما زعمت أنه صاروخ إيراني الصنع أُطلق من اليمن على مطار الرياض، ما يشير، في رأيها، إلى قيام طهران بتسليح جماعة أنصار الله في صنعاء، وبالتالي تهديد الأمن والسلم الدوليين. ولم تكتفِ هايلي بذلك، بل أعلنت أيضاً اعتزام واشنطن بناء تحالف دولي يتصدى لإيران.

ما سرّ نزوة ترامب الجديدة ومآلها؟

صحيح أن الدافع الأول لنزوة ترامب هذه هو تعويض تراجع قوته السياسية وتكاثر أعدائه وتقلّص عدد مؤيديه بين الناس وفي الكونغرس، إلاّ أن إندفاعته الجديدة ضد إيران تأثرت، بلا شك، بما سبق بيانه من خسارات سياسية تكبدتها واشنطن في سوريا والعراق وفلسطين المحتلة، وتداعيات هذه الخسارات وارتداداتها عليها وعلى حلفائها. ولعل أبرز دوافع شنّ هذه الحملة الجديدة ضد إيران، التغطيةُ على تداعيات خسارة واشنطن معركة اعترافها بالقدس عاصمةً لـِ»إسرائيل»، وإجماع العرب والمسلمين على إدانتها، وما يحمله ذلك من احتمالات وازنة لاتساع نفوذ محور المقاومة في صراعه ضد أمريكا و»إسرائيل» معاً.

إلى أين من هنا؟

الأرجح أن واشنطن ستحاول لكنها لن تنجح في تطوير عداوتها لإيران، وحملتها المتصاعدة عليها إلى أبعد مما وصلت إليه حتى الآن، بدليل أن وزير الدفاع جيمس ماتيس أكد أخيرا أن أمريكا ستواجه إيران دبلوماسيا لا عسكريا، لأن إيران وحلفاءها في محور المقاومة كسبوا أخيراً مزيداً من القوة والنفوذ على الصعيدين السياسي والميداني. ثم إن العالم برمته، ولاسيما دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين تعارض وتناهض محاولات أمريكا تعطيل الاتفاق النووي، أو تجاوز موجباته الملزمة. كل ذلك ينبئ بإخفاق مبكر لسياسة، بل نزوة، ترامب الجديدة ضد إيران وحلفائها.

أجَل، أمريكا تتجه إلى تراجع متزايد على جميع المستويات في عالم تحرر من سطوتها وبات أكثر قدرة على توظيف إرادات دوله في حماية استقلالها وتعزيز مصالحها.

إذا كان هذا هو اتجاه الأحداث في المنعطف الراهن من حركة التاريخ، فماذا تراها تخطط قيادات قوى المقاومة العربية؟ وماذا ستفعل لتعزيز مواجهتها الطويلة النَفَس للعدو الصهيوأمريكي؟
إنه سؤال اليوم والغد.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/12/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد