آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

بعد سبعة أعوام: الربيع العربي يجدد نفسه


د. سعيد الشهابي
 
كادت منطقة الشرق الأوسط تشهد «ربيعا» آخر بعد سبع سنوات على ما حدث في مطلع العام 2011. فقد حدثت اضطرابات واسعة النطاق في بلدان عربية عديدة، لكنها هذه المرة انطلقت لأسباب معيشية بسبب تصاعد الأسعار وتردي الاقتصادات بشكل عام. ومع أن ثورات الربيع العربي انطلقت أساسا بدوافع سياسية ولكن شعلتها كانت ذات بعد معيشي ارتبط بالشهيد التونسي، محمد بوعزيزي، البائع الجوال الذي انتفض لكرامته بعد أن إهانه موظف حكومي.

الانتفاضات التي حدثت الأسبوع الماضي في الجزائر وتونس والسودان والبحرين مؤشر لهشاشة الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم العربي. ولا يعني قمع هذه الاحتجاجات نهاية التوتر في منطقة تبحث عن شاطئ آمن يسوده الاستقرار السياسي وتعمه العدالة والعلاقات الطيبة بين الحاكم والمحكوم. وقد يكون صدفة أن تتزامن الاحتجاجات المعيشية الحالية مع مرور سبعة أعوام على أكبر حركة شعبية شهدها العالم العربي منذ عقود، ولكن من المؤكد أن أوضاع المنطقة لن تستقر بدون إقامة منظومات سياسية واقتصادية تلبي شيئا من طموحات المواطنين. وليس مستغربا أبدا حدوث اضطرابات أمنية وسياسية كهذه، فهذا هو المتوقع عندما يكون هناك احتقان عميق الجذور، ولكن المستغرب قدرة النظام السياسي العربي على السيطرة شبه المطلقة على الأوضاع. أنها ليست سيطرة محصورة بحدود القطر الواحد، بل أن هذا النظام المدعوم أساسا بالمال النفطي الهائل والدعم الأمني الأنكلو ـ الأمريكي ـ الإسرائيلي، استطاع السيطرة على الحدود أيضا. فقد طور منظومته الأمنية لتشمل إنشاء جهاز «الانتربول العربي» الذي تضم قوائمه عشرات الآلاف من النشطاء العرب. وسعى هذا النظام العربي لاستغلال الانتربول الدولي ولكن نجاحاته محدودة حتى الآن.

في مطلع الشهر الحالي حدثت اضطرابات واحتجاجات في مدن إيرانية عديدة، كان عنوانها في الأساس ذا بعد اقتصادي نتيجة تراجع الأوضاع الاقتصادية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وسرعان ما توسع ذلك العنوان ليستهدف النظام السياسي الذي حكم إيران منذ قرابة الأربعين عاما. يومها تحركت كافة أدوات التحالف المناهض لإيران وثورتها وسياساتها، فعرضت وكأنها ثورة عارمة على النظام وأنها على وشك إسقاطه إلى الأبد. النظام الإيراني تحرك لإظهار وجه آخر للوضع بتشجيع مسيرات مليونية جابت أغلب المدن واستمرت أسبوعا، وأظهرت حجم الدعم الشعبي للنظام السياسي. ولكن ما كادت الأزمة الإيرانية الداخلية تتراجع حتى انطلقت الاحتجاجات المعيشية في بلدان عربية عديدة، ما تزال مستمرة حتى الآن. ومن الصعب التنبؤ ما إذا كانت ستتحول إلى ثورات سياسية، ولكن الأمر المؤكد أنها تعبير عن حالة احتقان عميق لا تحتاج إلا لثقاب صغير لتتحول إلى ثورات يسقط فيها الضحايا وتستدعى فيها الاحتياطات الأمنية وتبدأ أنظمة الحكم في التراجف.

والملاحظ أن بلدا عربيا كبيرا على الأقل لم تصله الاحتجاجات بعد، وهي المملكة العربية السعودية برغم الأزمات العديدة التي تعاني منها. والملاحظ هنا أن الوفرة المالية لدى الحكم السعودي ساعدته على استباق الأزمة بإعلان تقديم مساعدة مالية لموظفي الدولة تصل إلى حوالي 250 دولارا شهريا تستمر عاما كاملا. جاء ذلك بعد إعلان الرياض (ومعها البحرين والإمارات) فرض ضرائب جديدة على السلع الأساسية خصوصا البنزين. هذا الغلاء المفروض أدى لاحتجاجات في البحرين ضمن فعاليات ثورتها التي لم تتوقف منذ انطلاقها قبل سبعة أعوام. ولكن هل تستطيع هذه الدول تحاشي المحذور المتمثل بانتفاضات شعبية تنطلق بدوافع اقتصادية ثم تتحول إلى ثورات تغييرية؟ قد يبدو ذلك ضربا من الخيال خصوصا مع وجود سياسات أمنية ضاربة لدى هذه الأنظمة، ولدى الدول الداعمة لها في تحالف «قوى الثورة المضادة» التي تشمل أمريكا وبريطانيا و «إسرائيل». والسؤال هنا: هل يمكن الاعتماد على هذه الإجراءات لمنع الاضطرابات السياسية التي تؤدي للتغيير؟

الواضح أن الأعوام السبعة التي أعقبت قمع ثورات الربيع العربي لم تستطع إيصال الرسالة المهمة للأنظمة الريعية التي وفرت الوفرة المالية لديها حماية مهمة بوجه الاحتقانات الشعبية والاحتجاجات ضد سياسات التقشف وفرض الضرائب وخفض الأنفاق على الخدمات العامة. وبدلا من معالجة الأسباب الحقيقية التي دفعت شباب العرب للانخراط في الاحتجاجات التي عصفت بعدد من الدول العربية، عمدت أنظمة تلك الدول وكذلك الدول المرشحة لمثل هذه التصدعات، لتطوير أجهزتها الأمنية مستعينة بجهات ذات خبرة طويلة في قمع مناوئيها خصوصا الكيان الإسرائيلي. وبدلا من العكوف على قراءة مدلولات الغضب الشعبي وأسبابه والسعي لاسترضاء المواطنين بالحوار، افتعلت أزمات خارجية وداخلية لإشغال الرأي العام بها بعيدا عن الانشغال بهموم الإصلاح والتغيير.

والأخطر من ذلك أن بعض الأنظمة استثمر مليارات الدولارات لمعاقبة الشعوب التي ثارت من أجل التغيير، فبعثت قواتها لقمع شعب البحرين كإجراء أول في مسلسل قمع الشعوب الثائرة من قبل قوى الثورة المضادة، ومزقت ليبيا تمزيقا رهيبا، ودمرت سوريا بالإرهاب الذي ليس له حدود، وتم إنهاك مصر بانقلاب عسكري قوض قوة البلد العربي الأكبر وحوله إلى بلد تابع لأنظمة حكم تستمد قوتها ليس من شعوبها بل من الخارج.

وأصبحت مصر في قبضة العسكر بدون رحمة، وفتحت سجونها لتضم عشرات الآلاف ولتتحول إلى واحد من أشد بلدان العالم قمعا. وأخيرا استهدفت اليمن بحرب حصدت أرواح أكثر من عشرين ألفا من ضمنهم نساء وأطفال، وأدت إلى انتشار الأمراض والمجاعة. وأصبحت اليمن، مهد حضارة سبأ وحاضنة سد مأرب، أسيرا لدى بلدين أحدهما عمره لا يصل الخمسين عاما، ولم يتشكل إلا بعد الانسحاب البريطاني من الخليج في 1971.

وتواطأت قوى الثورة المضادة للامعان في امتهان الشعوب العربية بأنماط غير مسبوقة من التنكيل والحصار والتجويع. فهل أدى ذلك إلى حل المشكلة الأساس التي كانت وراء تفجر ثورات الربيع العربي؟

إن ما حدث الأسبوع الماضي من اضطرابات في البلدان المذكورة مؤشر لعمق الاحتقان الذي تعاني منه شعوب المنطقة، وتأكيد لحتمية قيام ثورات تغييرية جديدة. صحيح أن ثورات الخبز في الثمانينيات في مصر وتونس والمغرب لم تؤد لاندلاع ثورات سياسية كبرى، ولكن ما جرى في السنوات السبع الأخيرة من اضطهاد منظم لشعوب المنطقة واستخفاف بمقدراتها وقيمها وحقوقها ووجودها قد عمق الشعور العام بالظلامة والإهانة، وهو شعور عادة ما يتحول إلى ثورة عارمة تعصف بما حولها. وبدلا من احتواء الأزمة التي كان الربيع العربي مصداقا لها، ساهمت سياسات قوى الثورة المضادة التي استهدفت الشعوب الثائرة بأبشع أصناف التنكيل، في التأسيس لمرحلة مستقبلية جديدة، ستنطلق الثورات الشعبية فيها بوهج أشد وإصرار أقوى على التغيير. فلا يمكن قتل طموحات الشعوب بالعنف فحسب، بل بالسعي لتلبية طموحاتها أو شيء منها على الأقل. أما سياسات الاستضعاف والاستسخاف والتضليل فلا تؤدي إلا إلى المزيد من الاحتقان والاستعداد للمواجهة.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/01/15

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد