آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

عامٌ جديد: شروط الصّراع


عامر محسن

كان الأسبوع الماضي حاسماً مع استحقاق الموعد النهائي للرئيس الأميركي حتى يوقّع على قرارٍ يمدّد تجميد العقوبات الأميركية المفروضة على إيران في الملف النووي، كجزءٍ من الاتفاق المعقود عام 2015 بين المجموعة الدولية وإيران. كانت التوقّعات متباينة حول ما سيفعل ترامب، والعديد زعم بأنّه مصرٌّ على عدم التجديد هذه المرّة (وهو ما يعني، فعلياً، نسف الاتفاق النووي).

سألت «رويترز»، قبيل موعد القرار، ثلاثة مسؤولين في البيت الأبيض فحصلت على ثلاث إجابات متباينة (أنّ ترامب لن يجدّد تجميد العقوبات، وأنّه سيجدّدها، وأنّ المحيطين به يحاولون إقناعه بالتجديد وهو رافض). في النّهاية، يوم الجمعة الماضي، قام ترامب بالتوقيع على القرار مع تنبيه مهمّ: أنّها المرّة الأخيرة التي سيجدد فيها لرفع العقوبات، إلّا إذا طرأت تغييرات أساسية على بنية الاتفاق الأصلي (الموعد القادم لهذه «الحزمة» من العقوبات بعد 120 يوماً، في منتصف شهر أيّار، وهناك حزمة عقوبات مختلفة يحتاج تجميدها إلى توقيع الرئيس كلّ 180 يوماً). بتعابير أخرى، لم يزدد الموقف إلّا غموضاً؛ فكلام ترامب و«الإنذار النهائي» الذي وجّهه قد يكون مجرّد مناورة ــــ لا تمنع أن يقوم، في أيار المقبل، بالالتزام بالاتفاق مجدداً كأن شيئاً لم يحصل ــــ أو قد يكون، لو أخذنا كلامه على محمل الجدّ، بمثابة فتيلٍ أُشعل وتمّ توقيته.

في الوقت ذاته، في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الخميس الماضي، كان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، دايفيد ساترفيلد، يتم استجوابه من قبل لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ. خلال النّقاش، طرح السيناتور كريس مورفي سؤالاً حول المبرّر لوجود قوات أميركية في سوريا بعد هزيمة تنظيم «الدّولة الإسلامية» وانحساره. بدايةً، حاول ساترفيلد تجنّب الإجابة، زاعماً بأنّ الموضوع يحتاج إلى جلسة سريّة حتّى يتمكّن من التكلّم فيه بحريّة؛ ولكن، تحت الحاح الأعضاء، أعطى تصريحاً مقتضباً: «نحن قلقون للغاية بسبب نشاطات إيران، ومن قدرة إيران على تعزيز نشاطاتها مع قدرةٍ متزايدة لنقل المعدّات إلى سوريا. وأنا أفضّل أن نكتفي بهذا القدر هنا».

«العامل الصّيني» وتغيّر العالم

توجد نظريّة منتشرة عن كون الدّور الصّيني في الملفّ الإيراني، رغم قلّة الضجّة والكلام حوله، هو «العامل الخفي» في تشكيل مسار الأمور خلال العقدين الأخيرين. بالفعل، لو أنّك تنظر إلى مجمل الدّور الصّيني منذ نهاية الثمانينيات، فأنت تكتشف ما يشبه «خطّة»، أو التزاماً غير محكي بتأمين استمرارية النّظام في إيران، يظهر في المفاصل الأساسيّة. على سبيل المثال، حين شدّد الغرب عقوباته على طهران في العقد الماضي، وحاول عزلها بالكامل عن النظام المصرفي والسوق العالمي ومنعها من تصدير النفط وتحصيل عائداته، ظلّ الصّينيّون حريصين على شراء كميّاتٍ من النّفط الإيراني (وصلت إلى ما يقارب نصف التصدير في بعض الفترات) تسمح بإبقاء «الحدّ الأدنى» من البيع الذي يسمح بتمويل الحكومة والميزانيّة؛ ولولا هذه السياسة الصينيّة، لواجهت إيران مأزقاً حقيقياً بالمعنى المالي. يجزم صديقٌ، أمام مثل هذه السياسات، بأنّ في القيادة في بيجينغ من رسم «خطّة استراتيجية» بعيدة المدى لجوار الصّين ووسط آسيا، ومستقبل الصّين في العالم ككلّ، وهي تستلزم صمود إيران في هذه المرحلة، وأنّ هذا ما يفسّر «العلاقة الخاصّة».

المسألة تمتدّ إلى ما هو أبعد من الاقتصاد وشراء النّفط، ففي المجال العسكري أيضاً، تجد أنّ أكثر الأسلحة «النوعيّة» في إيران، الّتي تشكّل عامل ردعٍ أمام قوى غربيّة متفوّقة ــــ من الصواريخ البالستية إلى الأسلحة المضادة للسفن ــــ هي من أصلٍ صينيّ أو كوري شمالي، وتقنيّات نقلتها بيجينغ إلى إيران رغم حساسيتها. الصّواريخ الإيرانية الحديثة المضادّة للسّفن، مثلاً، هي من أصولٍ صينيّة وتطويرٍ لأنظمة حصلت عليها إيران ثمّ قلّدت صناعتها (C-802, C-803, الخ). كما أنّ برنامج الصواريخ الباليستيّة في البلد نشأ بتعاونٍ واستيراد تكنولوجيا من كوريا الشّماليّة (والبعض يقول إنّ التعاون كان مثّلثاُ، بين كوريا وإيران والصّين)، والعديد من الصواريخ الإيرانية القصيرة المدى تشبه نماذج صينيّة أو هي مطوّرة عنها. بل أنّ المعلّق العسكري توم كوبر يزعم في تحقيقٍ كتبه عن الأنظمة الإيرانية الجديدة المضادّة للطيران أنّ أغلب الرّادارات الحديثة التي ظهرت فجأة في إيران، وأُعلن عن البدء في تصنيعها في السّنوات الماضية، ما هي إلّا تصاميم صينيّة في الأصل، أو بُنيت بمساعدة كثيفة من الصّينيين. بمعنى آخر، حين واجهت إيران خطر حربٍ جويّة في أواسط الألفية الثانية، وكان دفاعها الجوي قاصراً وبدائياً وغير قادرٍ على مواجهة التّهديد، ربما كانت بيجينغ هي من ساعد طهران في «البرنامج المحموم» الذي أُطلق يومها، وذلك في أكثر مجالات الحرب التقليدية حساسيّة (وبخاصّة من وجهة نظر الأميركيّين، الذين قد يتعرّض طياروهم إلى نيران هذا السلاح).

الرّوس، بالمناسبة، رغم الكلام الكثير عن دورهم ونفوذهم (في صحافة الغرب والشرق) لم يلعبوا أدواراً مماثلة. حين حاولت ايران سدّ الفجوة في دفاعها الجوّي عبر صفقة روسيّة عام 2007، لم تصل أنظمة الـ«اس ــــ 300» إلّا بعد عقدٍ من توقيع الاتفاق، بعد أن علّقه ميدفيديف لسنوات استجابةً لضغوطٍ غربيّة. قبل ذلك، كان بوتين قد وافق في بداية عهده عام 2000، ضمن اتّفاق مع بيل كلينتون، على وقف تزويد إيران بالسّلاح بل، بحسب مقالٍ لباباك تقوائي في مجلّة «ايرفورسز مونثلي»، فإنّ الرّوس توقّفوا لسنوات حتّى عن تزويد إيران بقطع غيارٍ لطائرات مقاتلة سبق واشتروها من روسيا، ما أبقى جزءاً من أسطول «ميغ ــــ 29» الإيراني (الموكل بمهام الاعتراض) مثبّتاً في المطارات خلال مرحلةٍ بالغة التوتّر والخطر.

هندسة الإقليم

الدّور الصّيني هنا يشير إلى التغيّر التدريجي في بنية النظام العالمي وموازين القوى فيه، وهو ما تظهر له العديد من العلامات، من انتخاب ترامب إلى «بريكزيت» إلى صعود اليمين الفاشي في شرق أوروبا ومن قلب الاتّحاد، ونحن لا نعرف بعد كنهه ومداه، غير أنّنا نعرف أنّه يشير إلى أنّ نظام الهيمنة الأوحد، الذي حكم العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يعد كما كان. ما زلنا بعيدين عن توقّع أفول الامبراطورية الأميركية، ومن السّذاجة أن نضع الصّين في موقعٍ يوازن أميركا وحلفاءها، ولكنّنا ــــ أقلّه ــــ وصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها أميركا هي «اللاعب الوحيد» في الكوكب، ولم تعد لديها القدرة المطلقة على عزل من تشاء وجرّ دول العالم خلف حروبها وعقوباتها. حين ردعت الحكومة الأميركيّة، مثلاً، أكثر الشّركات والمصارف الأوروبية عن التّعامل مع إيران حتّى بعد توقيع الاتفاق النووي (وقد كان الهدف هنا هو إبطال المفاعيل العمليّة للاتفاق، ومنع طهران من استخدام الإعفاء لجذب استثمارات أجنبية وتمويل مشاريع)، قامت الصّين ببساطة باحتلال مكانها في السوق ــــ كما يقول تقريرٌ في «بلومبرغ» ــــ وقدّمت خطوط اعتماد توازي قيمتها 25 مليار دولار لتمويل مشاريع صينية في البلد.

هذه التطوّرات مهمّة بالنّسبة إلينا لسببين. أوّلاً، لأنّ انحسار القطبية الواحدة وتراث التسعينيات وثقافتها، وإن جزئياً، تمثّل الأمل الوحيد لمنطقتنا. فلنكن صريحين: لا توجد إمكانيّة، ولو نظريّاً، لبناء مشروعٍ استقلاليّ سيّد في عالم تسيطر عليه الهيمنة الغربيّة بالكامل، أمَلك الوحيد حين يسود الظّلم هو في أن تقاوم وتصمد في انتظار أن يسير التاريخ لصالحك، وأن تطرأ تغييرات بنيويّة تفتح لك فرصاً جديدة وترخي من طوق الهيمنة، وهنا الرّهان. ثانياً، فإنّ طبيعة النّظام الإقليمي الذي أسسته أميركا في بلادنا هو من النّمط الذي يعتمد عضوياً على القوة الأميركية والحليف الخارجي، ويسقط بسرعةٍ في مأزق من دونها. هذا، على الهامش، ينطبق على دور إسرائيل كما على دور أنظمة الخليج: ما يجعل صراعنا مع الصهيونيّة فريداً هو، تحديداً، أنّ إسرائيل دولةٌ صغيرة تريد لعب دورٍ امبرياليّ، تحاول بناء ثقافة تمييزٍ واستيطان في منطقة هي غريبة عنها، وهي لا تملك العمق البشري لاستيعاب من تحتلّ أرضهم وإذابتهم في مجتمعها أو للدفاع عن نفسها في محيطٍ أكبر منها بكثير (وإلّا، فإنّ التّاريخ مليء بحالات تقوم فيها دولٌ كبرى باحتلال أو «ابتلاع» بلادٍ، واستيطان أقاليم، وتهجير شعوبٍ أو ترويضها، ولا يتمكّن أحدٌ من فعل شيء، ولكن هذه ليست حالة إسرائيل). لهذا السّبب فإن الكيان الصهيوني لا يمكنه أن «ينكفىء» ببساطة ويدافع عن نفسه، بل هو يحتاج دوماً إلى «التحكّم» بما يجري في محيطه، والى القوّة الأميركية التي تكيّف المنطقة لصالحه وتضمن بقاءه، وهذه المعادلة تتجذّر كلّما تقدّم الزمن، وتصبح كل قوة تنشأ في المنطقة تهديداً لإسرائيل، وأيّ مشروعٍ عسكريّ يخيفها، وأي تغيير في النظام العالمي يؤثّر عليها (عسكرياً، حتّى نفهم هشاشة إسرائيل وضرورة أن تتحكّم بمحيطها سياسياً، فإنّ كتائب صواريخ معدودة تتخفّى في صحراء الأردن قادرة على منع الكيان من تسيير حياةٍ طبيعية إلى ما شاء الله).

بالمعنى ذاته فإنّ «السياسة الخليجية»، خاصّة كما تشكّلت في إقليمنا بعد حرب العراق وسقوط الاتحاد السوفياتي، لا يمكن أن تقوم وتستمرّ إلّا باعتبارها امتداداً للسلطة الأميركية، التي تثبّت نظاماً «غير طبيعيّ» في المنطقة، تسيطر فيه أصغر الدّول على الإقليم، وتتركّز فيه الثروة في يد حفنةٍ من الشيوخ والأمراء، ويصبح لبلدٍ مثل الإمارات (مواطنوه لا يتعدون مئات الآلاف عدداً) «مطامع» في اليمن وسقطرة، أي كأن تقوم اللوكسمبورغ ــــ في السياق الأوروبي ــــ باستعمار أسبانيا. هذه الوضعيّة، أيضاً، تزداد حراجةً بمرور الزّمن، وتوسّع حروب الخليج في الشام والعراق واليمن، والهوس بالسيطرة على كلّ زفيرٍ يخرج في المنطقة، سياسةً وإعلاماً وثقافة.

خاتمة

هذه العوامل كلّها ستتصادم في إقليمنا قريباً، وواجهة الهيمنة الأميركية يمثّلها اليوم دونالد ترامب على المستوى الدولي ومحمّد بن سلمان محلياً. ولا ريب في أنّ ابن سلمان وكوشنير يحضّران شيئاً مع الإسرائيليين، وأنّهما لن يقفا مكتوفي الأيدي أمام ما يريانه «تراجعاً» وفقداناً للسيطرة في البلاد المحيطة ــــ وهذه السّنة قد تكون حاسمة في هذا المجال. غير أنّ هناك عاملين يلعبان ضدّ أميركا هذه الأيّام. أوّلاً، أنّ الهيمنة، حين تبدأ بالانحسار، تظهر التناقضات بين عناصرها، ولا تعود المصالح الإسرائيلية والأميركية موحّدةً ومتراصّة كما في السّابق، ويختلف الخليجيون ويتنافسون، وتنفصل السياسة التركية عن تلك الأميركية في أكثر من مضمار. من جهةٍ أخرى، فإنّ شخصيّتي ترامب وابن سلمان لا تساعدان على الاستجابة لتحديات المرحلة، فمشاكل الأوّل الداخلية تدفع بإدارته صوب الشلل وقلّة الفعل، لا تخطيط الحروب ولمّ الإجماع حولها، فيما مغامرات الثاني ومشاريعه ــــ من اليمن إلى لبنان إلى الوضع السعودي نفسه ــــ لم تنتج إجمالاً إلّا الفشل ومزيدٍ من التّوريط.

في العشرينيات، نشر شارل ديغول كتاباً يبحث في صعود وسقوط الامبريالية الألمانية، وصولاً إلى القيصر الأخير وليم الثاني، الصّلف والمتهوّر، الذي أدخل بلاده الحرب العالمية الأولى وخسرها وأنهى حكم سلالة «هوهِنزولرن» التي تمتدّ جذورها إلى القرون الوسطى (وفي أواخر أيّامه، حين انطلقت الحرب العالمية الثانية، عبّر القيصر من منفاه في هولندا عن تأييده لهتلر وراهن على أنّه سيؤمّن «قيامة» الأمّة الألمانية). في بحثٍ في مجلّة «لابهام كوارترلي» عن ألمانيا الامبراطورية اقتباسٌ من كتاب ديغول، هو عن صفات القائد الطامح الذي يقود بلاده صوب الانحدار، ولكنّه يبدو وكأنّه توصيفٌ للأمير السعودي الشاب من شخصٍ يعرفه: «الأخطاء التي يشترك بها هؤلاء الرجال المهمّون: نزوعٌ دائم للمغامرات كبيرة الكلفة، شغفٌ بتوسيع سلطتهم الشخصيّة بأيّ ثمن، وعدم اكتراثٍ للحدود التي تفرضها علينا عوامل التجربة الإنسانية، والمنطق السليم، والقانون».

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/01/16