آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

توحش الأنظمة وتوتر الشعوب العربية


د. سعيد الشهابي

القسوة في معاملة المعارضين في أي بلد يؤكد وجود نظام سياسي مضطرب يفتقد الشعور بالأمن ويخشى من كل صوت يرتفع ضده. وفي السنوات الأخيرة تعمقت ظاهرة التوحش السلطوي في بعض البلدان العربية نتيجة شعورها بأن وجودها أصبح مهددا بسبب وعي شعوبها الباحثة عن الحرية والكرامة، وشعور الأنظمة بأن الحرية ستؤدي بدورها لإضعاف النظام السياسي وربما سقوطه. هذه الظاهرة تمثل حلقة مفرغة تدور الحكومات والشعوب فيها بشكل متواصل ويأمل كلا الطرفين أن يصاب الآخر بالإنهاك فيسقط. ومن مظاهر القسوة ردود الفعل المتشددة من قبل أجهزة الأمن والقضاء إزاء النشطاء الذين يرون فيهم تهديدا لبقاء نظام الحكم. فالدعوة للإصلاح والتغيير وتطوير أنظمة الحكم أصبحت تشكل، في نظر بعض حكومات الخليج، تحديا لنمط الحكم الذي يرفض تطوير سياساته وآلياته ليواكب مستلزمات الدولة الحديثة في القرن الحادي والعشرين. وطوال السنوات السبع الأخيرة تعرض الكثير من النشطاء في دول كالإمارات العربية والسعودية والبحرين لأساليب قمع قاسية بسبب إصرارهم على المطالبة بإصلاح أنظمة الحكم في بلدانها. هذه الأصوات ارتفعت بعد أن أصبح متعذرا الاعتماد على دوافع ذاتية لدى هذه الأنظمة للإقدام على الإصلاح الذي يفتح الباب لمشاركة المواطنين في صنع القرار وإدارة البلاد.

تعتبر المملكة العربية السعودية الدولة الكبرى بمجلس التعاون الخليجي الذي مضى على قيامه 27 عاما ولكنه بقي جامدا وعاجزا عن التطور. وتشير تطورات السنوات الأخيرة إلى وجود تصدعات داخلية قد تؤدي لانحلاله واستبداله بتحالفات أضيق، على غرار ما سمي «مجلس التعاون الاستراتيجي السعودي ـ الإماراتي» الذي أعلن عنه قبل شهرين. الأمر المؤكد أن الرياض تعيش أزمات متداخلة بعضها مرتبط بالعلاقات الداخلية والتوازنات في البيت السعودي نفسه خصوصا بعد استيلاء ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان، على السلطة وتجاوزه أعراف الاستخلاف المتبعة منذ رحيل مؤسس الدولة السعودية قبل ستين عاما. البعض الآخر يتصل بتوسع الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح السياسي والحقوقي. وبدلا من الاستماع لمطالب المعارضين ومناقشتها بهدوء من أجل السيطرة على الوضع، توسعت دائرة القمع التي استهدفت كافة المكونات في الكيان السعودي على تعدد أقاليمهم ومذاهبهم والدينية ورؤاهم السياسية. وبعد أن تم الإجهاز على التيارات الليبرالية واعتقل العديد من رموزهم مثل الدكتور عبد الله الحامد والمحامي أبو الخير والمدون رائف بدوي، جاء دور الإسلاميين من المحسوبين على تيار «الإخوان المسلمون». وقد شمل الاستهداف في العامين الأخيرين كلا من الشيخ عائض القرني وسلمان العودة وآخرين.

وفي الأسبوع الماضي طالب المدعي العام بإنزال عقوبة القتل تعزيرا بالشيخ سلمان العودة، وقبله بالشيخ عائض القرني والدكتور علي العمري بتهم ملفقة. وسبق ذلك مطالبة الادعاء بإعدام السيدة إسراء الغمغام بسبب نشاطها الحقوقي واستخدامها وسائل التواصل الاجتماعي لبث الأخبار حول الأوضاع الأمنية في البلاد. وقد احتجت المنظمات الدولية على ذلك المنحى من التعاطي مع المواطنين الذين يمارسون حقوقهم الطبيعية في التعبير عن الرأي والتجمع والمطالبة بالإصلاح السياسي. وحين يكون الخيار الأول أمام أي نظام سياسي السعي لقتل المعارضين الذين لم يمارسوا أعمال عنف أو إرهاب، فأن ذلك يعني تردي الأوضاع بمستويات غير مسبوقة. فالعنف إنما يولد العنف وسفك الدماء يؤدي لانهار من الدماء التي لا تتوقف. فهل هذا ما تتضمنه رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والتي أنفقت الأموال لترويجها كبديل يستخدمه الغربيون مبررا لعدم المطالبة بالإصلاح السياسي الجاد والتوقف عن استهداف النشطاء وإعدام الأبرياء؟ أن طلب الإعدام بحق نشطاء سياسيين لا يمارسون العنف يمثل قسوة تساهم في المزيد من الاستقطاب والاضطراب، ولا يمكن أن يكمم أفواه الإصلاحيين يوما. فما أكثر الذين اعدموا خلال التاريخ البشري بسبب آرائهم ومواقفهم، فتحولت دماؤهم إلى طوفان يعصف بأنظمة التوحش والغلظة ويسقطها.

وما أكثر الذين سيقوا إلى المحاكم العسكرية في مصر بعد الانقلاب العسكري في 2013 الذي اسقط الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وجاء بالحاكم العسكري الحالي، واستهدف جماعة «الإخوان المسلمون» بشكل خاص. وفي شهر تموز/يوليو الماضي قررت محكمة مصرية إحالة أوراق 75 متهمًا إلى المفتي لـ «أخذ رأيه الشرعي في إعدامهم» في القضية المعروفة إعلاميًا بـ «فض اعتصام رابعة» التي تعود لعام 2013. ورأي المفتي استشاري وليس إجباريا. ومن بين المتهمين البارزين المحالين للمفتي: عصام العريان وعبد الرحمن البر ومحمد البلتاجي وعاصم عبد الماجد وصفوت حجازي وطارق الزمر ووجدي غنيم.

الجدير بالذكر أن المجزرة المذكورة قتل فيها 632 شخصا حسب الإحصاءات الرسمية، من بينهم 8 من الشرطة. أي أن أغلب الضحايا هم من أفراد الجماعة. مع ذلك لا يخجل الحكم العسكري الذي أصدر الأوامر بالاعتداء على المسجد المذكور من إصدار أحكام الإعدام بحق الضحايا واستثناء القتلة الذين ارتكبوا أكبر مجزرة في التاريخ المصري المعاصر. هذا التوحش له رسالة واحدة: أن قوى الثورة المضادة لا تعرف حدودا إذا قررت البطش، ولا تحترم روابط المواطنة المشتركة أو الانتماء للدين الواحد أو القومية الواحدة أو الإنسانية الواحدة. هذا يعني أن مرتكبي جرائم القتل قد انسلخوا من كافة مستلزمات العلاقات التي تقوم على روابط الوطن والدين والإنسانية. فهل يكون غريبا، في ظل هذا التوحش، أن تخسر مصر موقعها الريادي في المنطقة وتسلم مقاليدها لزعامات من الرياض وأبوظبي لا تملك سوى المال النفطي الذي لن يدوم؟

إن هذا المنحى في سياسات بعض الأنظمة العربية تجاه مواطنيها لا يمكن أن يؤدي لأمن المنطقة واستقرارها. فالأمن لا يتوفر إلا برضا عموم المواطنين، ولا تحققه التدخلات الخارجية والسماح ببناء القواعد الأجنبية. فلماذا هذا التوحش في المعاملة؟ لماذا يتغول البعض حين يمسك بزمام السلطة التي يفترض أن تكون مجالا لخدمة البشر وليس لاستضعافهم أو استعبادهم؟ الأمر المؤكد أن الظلم إنما هو أحد تجليات الضعف وليس القوة. قال الإمام علي: «إنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف».

النظام القوي هو الذي يشعر بالاستقرار الناجم عن قوة الدولة التي يحكمها من جهة ورضا العامة عن حكمه من جهة أخرى. أما ظاهرة التوحش في معاملة المعارضين والمناوئين والمختلفين في الرأي والموقف فإنما هي أحد تجليات الاستبداد وعدم شعور الحاكم بالأمن وبلوغ العلاقة بين الطرفين إلى مستوى القطيعة التي تلغي أية فرصة لعودة المياه إلى مجاريها. أن حالة التوحش لدى بعض الحكام ناجمة عن الشعور بالضعف تارة وفقدان الشرعية ثانية والرغبة في الانتقام ثالثة، وعدم احترام القانون رابعة. وما لم تتغير هذه الحالة فلن تستقر الأوطان ولن يهنأ المواطنون بالأمن، وسيبقى الحكام في توتر مستمر. الرأفة عنوان الحكم والقسوة طريق للفناء والسقوط.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/09/10

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد