آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إبراهيم الأمين
عن الكاتب :
صحفي لبناني ورئيس تحرير صحيفة الأخبار اللبنانية

رحلات الصواريخ الدقيقة


إبراهيم الأمين  

عندما بكى السيد حسن نصرالله على الشاشة، في إحدى ليالي عاشوراء، لم يكن بين مريديه وعارفيه من يشك في لحظته العاطفية. وإذا أهملنا التفّه من فريق 14 آذار، بأجنحته اللبنانية والسورية والخليجية، فأن الأعداء الحقيقيين في الغرب وإسرائيل يعرفون حقيقة الرجل!

الأمر هنا يتعلق، ليس بصدق يمكن أن يتمتع به كثيرون في هذه الدنيا، وحتى بين قادة أحزاب وشعوب، بل بحقيقة أن الرجل بكى في ختام محاضرة تستهدف القول أنه، ومن يمثل، إنما يتصرفون على أساس أن ما يتصدّون له هو لخدمة هدف يتجاوز امتيازات الدنيا. فهو رجل دين يتولى موقعاً سياسياً وشعبياً، ومناضل محبّ للحياة الكريمة، لكنه مستعد لتضحية ترضي قناعاته العقائدية وتساعد في تحسين حياة البقية من الأحياء. ما يعني أن أعداءه يعرفون أنه صادق، ليس فقط في مشاعره، بل في ما يقوله، وما يلتزم به، وما يفعله حين يقتضي الأمر.

منذ تاريخ نشأته حتى عام 2006، تصرف حزب الله مع قدراته على أنها سر الأسرار. ورغم النشاط الاستخباري الهائل للعدو، لم يلجأ إلى الحديث عن بعض ما يملك من قدرات، إلا بعدما وجد أن الكشف عن بعض التفاصيل سيجعل الأعداء يتراجعون عن القيام بمغامرات نتيجتها الوحيدة الموت والدمار .

هذه المقدمة، تساعد في فهم الكثير من التطورات التي حصل في الأيام القليلة الماضية، من خطب السيد نصرالله إلى الأشكال الروسي ــــ الإسرائيلي بعد سقوط طائرة «إيل» الروسية ومقتل من عليها.

لماذا؟
في اختصار سريع لسنوات طويلة من العمل والجهد في تدمير العراق والسعي لإطاحة النظام في سوريا وتفتيت مجتمعها، ومحاصرة المقاومة في لبنان وفلسطين، فأن واقعنا اليوم يقول إن الدمار كبير والخسائر هائلة، لكن الهدف المركزي للمشروع المعادي فشل. وصار هدف أميركا والغرب وإسرائيل والسعودية تقليص الخسائر، ومنع تعاظم قوة المحور المقابل الممتد من إيران حتى غزة مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، والموصول إلى اليمن. وفي لبنان وسوريا، تتولى إسرائيل مهمة مركزية، هي القيام بأعمال أمنية وعسكرية تقول هي أن هدفها «منع الأعداء من امتلاك قوة» من شأنها أن تشكل خطراً وجودياً على كيانها. حتى وصل الحديث إلى الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، التي تحمل رؤوسا بكميات كبيرة جدا من المتفجرات. ثم جرت إضافة بعد تقني أكثر خطورة، يتمثل في أن هذه الصواريخ مزودة بنظام توجيه يتيح لها الإصابة الدقيقة، ويقلص هامش الخطأ إلى أمتار قليلة.

بناء عليه، سارعت إسرائيل، منذ دخول روسيا عسكريا في الحرب الدفاعية عن سوريا، إلى سلسلة من الإجراءات والضغوط التي تواكب انتصارات الدولة السورية. فأعطت لنفسها حق القيام بعمليات عسكرية داخل سوريا، وصولا إلى الحدود مع العراق، كما سعت مع روسيا إلى انتزاع ضمانات تقلص حجم المخاطر عند حدود الجولان المحتل. وهي تواصل مساعيها مع عواصم غربية وقوى محلية لبنانية، لاعتبار امتلاك حزب الله هذه القدرات الصاروخية بمثابة عمل عدائي يهدد مصالح لبنان.

منذ تاريخ نشأته حتى عام 2006، تصرّف حزب الله مع قدراته على أنها سرّ الأسرار

ما حصل قبل شهور عدة، أن قيادة دول وقوى محور المقاومة، قررت الرد موضعيا على غارات العدو واعتداءاته، فكانت عملية إسقاط الطائرة العسكرية الصهيونية بعد غارة على سوريا في شباط الماضي، ثم كانت «ليلة الصواريخ» الشهيرة في أيار الماضي، حيث تعرضت مواقع العدو في الجولان المحتل لصليات من صواريخ قوية. لكن العدو، ليس بمقدوره الاستسلام، فواصل غاراته وعملياته العسكرية والأمنية داخل سوريا، مقابل رفع سوريا وحلفائها من وتيرة استخدام منظومات الدفاع الجوي، وصولا إلى الغارة الأخيرة على الساحل السوري، والتسبب بسقوط طائرة الاستطلاع الروسية ومقتل طاقمها.

نتيجة ما حصل هو نشوب أزمة حقيقية بين روسيا وإسرائيل. فموسكو عملت بجد ــــ بمعزل عن رضى أو عدم رضى إيران وحلفائها ــــ لتوفير ضمانات تجعل إسرائيل لا تخشى استهدافا عسكريا مباشرا من الأراضي السورية. وحصلت تفاهمات كبيرة بالتزامن مع استعادة الدولة السورية سيطرتها على كامل الجنوب السوري، بحدوده مع الأردن أو مع الجولان المحتل. ووافقت إيران على إجراءات من شأنها تسهيل مهمة روسيا في حماية الدولة السورية. لكن روسيا أبلغت إسرائيل بأن إيران وحزب الله لن يغادرا سوريا الآن، ولا في وقت قريب، ولن تطلب دمشق منهما ذلك تلبية لطلبات إسرائيل.

تعرف إسرائيل، هنا، أن المسألة لا تتعلق بوجود عشرات المستشارين أو بضع مئات من المقاتلين بالقرب من الجولان المحتل. وهي تدرك جيدا أنه في أي مواجهة كبيرة، بات من الصعب الحديث عن محاصرة حركة المقاومة على الأرض في سوريا كما في لبنان، كذلك بات صعبا منع حصولها على حاجاتها من السلاح.

وهذا يعني لتل أبيب أنه في ظل تعطل القدرات الأميركية على القيام بعمل ميداني، وتعذر قيام روسيا بخطوات في هذا السياق، فما عليها إلا العمل مباشرة على الأرض. وذلك يكون من خلال اختيار أهداف وضربها عبر سلاح الجو. وتتكل إسرائيل، هنا، على أن تفاهماتها مع روسيا تتيح لها حرية الحركة في أجواء سوريا.

إلى ماذا يقودنا ذلك؟

أولا: بات العدو يدرك أنه، رغم كل التوضيحات الفنية، فأن المؤسسة العسكرية الروسية تعرف أن إسرائيل مسؤولة عن الجريمة. وإذا كانت الحكومة الروسية ليست في صدد معاقبة العدو بصورة قاسية، فأن موسكو السياسية والعسكرية باتت بحاجة إلى ضمانات لعدم تكرار الأمر. وبالتالي، فأن النتيجة الأولى لهذا الأمر، هو تضييق هامش المناورة أمام العدو، وان عليه ابتداع الوسائل الإضافية لمواصلة اعتداءاته على سوريا.

ثانيا: خلال السنوات الماضية، تعرّف الناس على توصيف «معركة بين الحروب». والمقصود به، أن الحرب لا تكون بالضرورة على شكل حرب كاملة. وأن أطرافها يلجأون إلى معارك تخدم مصالحهم وقدراتهم الخاصة بالحرب الشاملة. وهو تكتيك لجأ إليه العدو، من خلال العمل الأمني ضد قيادات وكوادر المقاومة من جهة، ومن خلال الغارات الجوية ضد أهداف ثابتة أو متحركة. ولأن طبيعة التوازن على الساحة اللبنانية منعت العدو من القيام بعمل هنا، فانه قام بأعمال على الأرض السورية حيث المعبر الرئيسي لسلاح المقاومة الاستراتيجي.

وبين العامين 2006 و2012 ظل العدو يتحدث عن سعيه لمنع «امتلاك حزب الله السلاح الكاسر للتوازن» إلى أن باشر في نهاية تلك السنة وما تلاها بتنفيذ غارات جوية ضد أهداف في سوريا قال أنها مصانع لتطوير القدرات التسليحية لحزب الله، وكان يفعل ذلك، في سياق مواجهة تراكم الكميات والنوعيات الموجودة من الصواريخ. لكنه، في فترة لاحقة، وعندما أيقن أن المهمة فشلت، لجأ إلى استراتيجية جديدة طورها خلال السنوات الثلاث الماضية وهدفها منع حزب الله من امتلاك صواريخ دقيقة.

كان العدو هنا، يحسب أن امتلاك المقاومة مئة أو مئة وخمسين ألفاً من «الصواريخ الغبية» أمر يجب التعايش معه، لكنه باشر بمعركة جديدة، حتى لا يتمكن حزب الله من مراكمة كمية كبيرة من «الصواريخ الذكية»، بما يجعل المعركة معه أكثر صعوبة. لذلك باشر حملة أمنية أيضا، وحملة شارك فيها دبلوماسيون وأمنيون من أوروبا في لبنان، ضد ما سماه «وصول تقنيات إلى حزب الله تتيح له تطوير الصواريخ الغبية إلى صواريخ ذكية»، بالإضافة إلى امتلاكه كمية من الصواريخ الدقيقة أصلا.

عمليا، ما أعلنه نصرالله، في خطابه الأخير، هو فشل استراتيجية «المعارك بين الحروب»، وإعلانه بوضوح أن المقاومة لم تمتلك فقط الصواريخ الدقيقة أو التقنية التي تجعل الصواريخ دقيقة، بل تمتلك ما يكفيها من هذه الصواريخ. وبالتالي، قال للعدو أن كل ما تقومون به لن يؤثر على برنامج المقاومة المكتمل لناحية امتلاك ما يحتاجه. علما أن نصرالله يعلم أن العدو يعرف أن عملية مراكمة عناصر القوة عملية مستمرة طوال الوقت.

ثالثا: أشار نصرالله إلى انضمام دول وقوى جديدة إلى محور المقاومة. وهو كلام يفهمه العدو جيدا. فعندما قصفت إسرائيل مواقع لفصائل عراقية على الحدود مع سوريا، تلقت تحذيرات مباشرة من الجانب الأميركي الذي يعرف أن جنوده وقواته ونفوذه وشركاته في العراق ستدفع الثمن، بالإضافة إلى أن إسرائيل نفسها قلقة للغاية من معطيات وصلتها عن وجود منظومة صواريخ «طويلة الأمد ودقيقة الإصابة» في حوزة القوى العراقية الحليفة لحزب الله وإيران وسوريا.

رابعا: صحيح أن الخيارات تضيق أمام العدو، ما قد يدفعه إلى الجنون، لكن توضيحات وتحذيرات كالتي قالها نصرالله، من شأنها مساعدة العدو على تبريد الرؤوس الحامية لديه. لأن خيار اللجوء إلى عدوان كبير، أو إلى عمل أمني كبير، ستكون نتيجته اندلاع حرب، تعرف إسرائيل جيدا، أنها ستشهد خلالها العملية التطبيقية لكل ما قاله لها نصرالله خلال 12 عاما.

هل يحتاج العدو إلى اختبار مصداقية دموع نصرالله؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/09/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد