آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

«بن سلمان الحقيقي»


عامر محسن  

«لقد تكلّمت للتوّ مع وليّ العهد السّعودي، وهو ينفي بالكامل أن تكون له أي معرفة بما جرى في القنصليّة» - دونالد ترامب
عن خاشقجي

لمن يعرف اللغة الدبلوماسيّة، كانت التصريحات الأميركيّة في الأيّام التي تلت اختفاء جمال خاشقجي تدلّ على أمرٍ واضح: أنّ المخابرات (التركية والأميركية) أصبحت تملك كلّ المعلومات عن ما جرى داخل القنصليّة، وأنّهم يعرفون أن خاشقجي لم يعد على قيد الحياة، وإلّا لما تكلّم المسؤولون الأميركيون بصيغة العارف، وانتظروا جلاء الأمور.

توجد عدّة نظريّاتٍ عن الأسباب التي قد تكون دفعت بالنّظام السّعودي إلى التّخلّص من الرجل، يلخّصها الكاتب البريطاني جون برادلي الذي عمل إلى جانب خاشقجي في الإعلام السعودي وعرفه شخصيّاً. هناك سرديّة أن بن سلمان قد "غضب" على الكاتب المنشقّ، وطفح به الكيل حين قدّم عرضاً شخصيّاً لخاشقجي - قبل أسابيع قليلة - بالتصالح والعودة إلى البلد، فارتاب الكاتب السّعودي ورفض (اليوم، من يلومه؟)، فأضمر له النّظام الشرّ. هذه النظريّة هي الأضعف، مقارنة بمقولة يسوقها برادلي، عن أنّ خاشقجي يمتلك معلوماتٍ "محرجة" للسعودية حول العلاقة القديمة مع "القاعدة" وهجمات 11 أيلول. يذكّرنا برادلي بأنّ خاشقجي كان مستشاراً ومعاوناً لرئيس المخابرات السعودية، تركي الفيصل، وكانت وظيفته تحديداً هي في تنسيق العلاقة مع "القاعدة" وأسامة بن لادن، ومحاولة عقد مصالحة مع النّظام. وقد تكون في عهدة خاشقجي، من هنا، أسرارٌ ودلائل من النّوع الذي قد يحمي الإنسان أو يؤدّي إلى مقتله (كما هو معروفٌ، استقال تركي الفيصل من منصبه في المخابرات قبل أيّامٍ من هجمات 11 أيلول عام 2001).

أمّا النظريّة الثالثة فهي تلك المعاكسة تماماً، أيّ أنّ خاشقجي كان يعمل أيضاً مع المخابرات الأميركيّة (هناك بالفعل عواملٌ تشير إلى "معاملة خاصّة" من قبل الحكومة، منها حصوله على فيزا "أو" بشكلٍ سريعٍ وسهل، وهي تأشيرة إقامة تُعطى عادةً للمبدعين في مجالاتهم على مستوى عالمي، وخاصة في مجالات العلم والفنون، وليس لكتّاب الأعمدة). برادلي وغيره يلمحون إلى خطّةٍ ترعاها دوائر ضمن الحكومة الأميركيّة، وهي ترمي إلى "تحديث" النظام السعودي واستبدال الملكيّة المطلقة بنظامٍ أكثر تمثيليّة، يفتح الباب لتيّارات جديدة (من بينها "الإخوان») للمشاركة في الحكم، وأنّ خاشقجي كان مرشّحاً لأن يلعب دوراً في هذا المشروع. يزعم برادلي أنّ "النقطة الحرجة" كانت حين أسّس خاشقجي في أميركا حزباً باسم "الديمقراطية في العالم العربي الآن" («داون" أو "فجر" بالانكليزية)، وأنّ تحوّل المستشار السعودي السابق إلى "معارضٍ" مواجه علنيّ، يقود حزباً يهدف إلى تمكين أعداء العرش، وتحديداً "الإخوان»، في العالم العربي، وله وجودٌ وتمويلٌ وقاعدة في أميركا، هو تحديداً ما يخشاه النظام السّعودي ولا يريده أن يتحقّق مع واجهةٍ مثل خاشقجي.

قضيّة خاشقجي، إذاً، قد يكون فيها بعدٌ سياسيّ ومخابراتي من الممكن جدّاً أن لا يتّضح وأن لا نعرفه أبداً، أو يظلّ سرّاً معلناً، مثل تفاصيل عمليّة الاغتيال، التي تتم اليوم - في الكواليس الدبلوماسية - محاولات طمسها وتغطيتها. هذا الجانب السياسي مهمٌّ لتفسير ما جرى، وإن كان الإعلام الذي يرفع قضيّة خاشقجي اليوم، على أنّها حصراً قضيّة رأي وصحافي تمّ إخفاؤه، لا يأتي على ذكره كما يجب (وخاشقجي نفسه، على عادة الكثير من العرب الذين قضوا حياتهم في وظائف سياسية ومحابراتيّة، كان يفضّل أن ينكر دوره الحقيقي في تعريفه لنفسه، وأن يقدّم نفسه حصراً كـ«كاتب» أو "باحث»). ومن الواضح أيضاً أنّ عمليّة "التفاوض" حول إخراج الجريمة قائمة، ولا يهمّ هنا أن يكون العذر مضحكاً (نظريّة "الاغتيال بالخطأ خلال الخطف" تشبه أن يدفع متّهم بالبراءة عبر القول بأنّه أراد سرقة المنزل لا أكثر، وأن قتله للمالك كان خطأً مؤسفاً، قضاءٌ وقدر) طالما أن الحكومات تقبل بها ولا تشكّك رسميّاً؛ بل يمكن القول أنّ "المزاد" قد ابتدأ مع اختفاء خاشقجي وبدء التسريبات - حين يقول أردوغان، مثلاً، أنّه يتمنّى "نتيجة ايجابية" مع السعوديين، وهو يعرف يقيناً أن الرّجل قد قُتل ولم يعد بيننا، فهو بالتأكيد لا يشير إلى "نتيجة ايجابية" بالنسبة إلى خاشقجي.

عن النّظام السعودي

لهذه الأسباب، هناك مبالغة في من توقّع أن توصل قضيّة خاشقجي إلى "مواجهة" بين السّعودية والعالم الغربي، ولا يصحّ أيضاً أن هذه الجريمة ستمرّ وكأنها لم تكن. حين تصل المسألة إلى الحسابات الفعليّة، لا الأميركيّون يريدون خلافاً مكلفاً مع الرياض حول اختفاء فرد، وهناك خطواتٌ كثيرة يمكن تنفيذها قبل الوصول إلى الخلاف العلني.

ولا تركيا في مصلحتها أن تقطع علاقاتها مع بلدٍ إقليميّ ثريّ، العداوة معه مريرةٌ ومكلفة، والسعودية تقدر في حالة العداء المفتوحة أن تؤثّر سلباً على تركيا بأشكالٍ كثيرة، فيما العكس ليس صحيحاً. العامل الأخير الذي يجب أن لا ننساه هو أنّ خاشقجي، رغم كلّ الاهتمام الذي لاقاه من الإعلام العالمي والنّخب، ليس مواطناً غربيّاً، فقيمة حياته ليست كحياة مواطنٍ أميركيّ أو بريطاني، ولن تقوم حكومةٌ ولا جمهورٌ ناخب بالمطالبة نيابةً عنه - في أميركا، مثلاً، قلّةٌ من النّاس تعرف من هو جمال خاشقجي، ولا أحد سيغيّر تصويته لأنّ ترامب غطّى اختفاءه (الاستثناء البارز كان السناتور ليندسي غراهام، الذي أطلق موقفاً قاسياً ضدّ بن سلمان وطالب باستبداله). لا ضرورة لأن نكرّر بأنّ جرائم أكبر بكثير قد مرّت من غير أن تؤثّر على موقع السعوديّة في الغرب، والرّياض هي التي "تقاطع" دولاً غربيّة وتفرض عليها "عقوبات" (كما جرى مع ألمانيا وكندا) وليس العكس. إسرائيل، بالطّبع، سرّبت تعليقاً عبر موقعٍ سعوديّ لتؤكّد أنّها "تصدّق" سردية الرياض ولن تتخلى عن حليفها بن سلمان.

حتّى لا نخدع أنفسنا، لو كانت المصالحة السّعودية - القطرية سائرة إلى اليوم، لكان خبر خاشقجي قد خفت في الإعلام العربي منذ زمن، وظلّ محصوراً في دائرة المعارضين السعوديّين. وتعاطف المعسكر القطري معك له جانبٌ ايجابيٍّ ومكربٍ في آن. هم، من ناحية، سيتفرّغون للدفاع عنك ونشر قصّتك - طالما أنّه أمر اليوم - وسينسون قضاياهم الوطنية و«ثوراتهم" مؤقّتاً. ولكنّهم، من جهةٍ أخرى، سينعونك ويجزمون بأنّك قد قُتلت وقُطّعت أرباً بعد دقيقتين على اختفائك، طالما أنّ المصلحة السياسية هنا (عرفنا شعوراً مشابهاً حين كنّا طلاباً جامعيين في لبنان، وكانت مشكلتنا مع الدولة ليست في أنها تقمعنا، بل أنها لا تكترث لنا، وقد فرحنا أشدّ الفرح حين تمّ اعتقال بعض الرّفاق، لأنهم كانوا يوزعون مناشير أو شيئا من هذا القبيل، وأذكر نكبتنا حين رأيناهم يعودون الينا بعد أقلّ من نصف ساعة مبتسمين - ونحن على وشك الاتصال بأهلهم لنبلغهم بأن الطاغوت قد اعتقل أولادهم، وهم على الأرجح يتعرضون للتعذيب).

غير أنّ القضيّة الأكبر هنا لا تتعلّق بشخص خاشقجي، بل بالتغييرات العميقة داخل السعوديّة والتي كشفت القضية عن بعض جوانبها. كما يقول أسعد أبوخليل، فإنّ تحوّل البلاط السعودي من نمط "حكم العائلة" إلى "حكم الفرد" قد أدّى إلى نتيجتين: أوّلاً، أصبحت أفعال السياسة السعودية أقلّ "محافظةً" وبطأً وأكثر تهوّراً (فهي لم تعد تعتمد على بناء توافق بين أجنحةٍ متعددة)، ولم يعد في البلد "الهامش" الذي كان موجوداً في السّابق للنّخب، حين أمّن تعدّد مراكز القوى تعدّد مصادر "الحماية»، وبحريّةٍ للتعبير والنقد تحت السّقف العام. أمّا اليوم، فإنّ الولاء المطلق هو فرضٌ، والسّجن والاعتقال أصبح احتمالاً سريعاً لأيٍّ كان؛ وعليك إظهار هذا الولاء وإبرازه باستمرار. بل إنّ عدم المشاركة في حملات الدّفاع عن النّظام، أو الصّمت، أصبح دليلاً يكفي لإدانتك. هنا تصعد "الحالة التوتاليتارية" التي نراها في الإعلام السعودي وبين مشاهير وسائل التّواصل، حيث المبالغة في التعظيم والجميع يتسابق على "تسجيل حضوره»، ويزايد على الباقين حتّى لا يبدو أقلّ حماسةً منهم، حتّى نصل إلى مستوى سوريالي في الخطاب (والدّافع هنا، بالطبع، هو الخوف).

قلّةٌ تتكلّم عن الجوّ الذي يعيشه السعوديون اليوم، نخباً وشعباً، تحت حكم بن سلمان، والمخاوف الكثيرة التي تحكم حياتهم بشكلٍ لم يعرفوه في السّابق. هذا، في الحقيقة، كان من الأسباب التي دفعت بخاشقجي (على حد قوله) لترك السعوديّة حين "لم يعد الجوّ محتملاً»، بمعنى أنك لم تعد تملك حصانة من أيّ نوع، ولا تقدر على الكلام، ويُفرض عليك "التطبيل». يخبرني أصدقاء من السعودية عن انعدام الثقة بين النّاس، وأنّ من تقدر على الكلام معهم بحرية هي دائرة صغيرة تضيق باستمرار؛ وأنّك - حين تتكلم في موضوعٍ غير شخصيّ روتيني مع سعوديٍّ لا تعرفه جيداً - يصبح الحديث شبيهاً "بالتورية وكلام العرّافين». بل أسرّ لي أحدهم بأنّهم يلجأون إلى تراث الفرق السريّة في الإسلام: أن تنسحب من الصدارة والواجهة قدر الإمكان، أن لا تتكلّم في الأمور السياسية علناً، وأن تخفي رأيك وتكتفي بالمعارضة السلبية إلى حين زوال العاصفة.

وفي أوقاتٍ كهذه، تحصل "تجارب اجتماعية" مثيرة. فيقول صديقٌ سعوديّ أنّهم يعتبرون الإعلاميين والمثقفين، مثلاً، أناساً "خطرين للغاية»، بمعنى أنك لا يجب أن تثق بهم، أمّا "الأخطر" على الإطلاق، يضيف، فهم فئة رجال الأعمال والموظّفين النّاجحين، فهم أسوأ العناصر وأكثرها أخلاصاً للنظام، وأنت لا تريد أن تتكلّم أمامهم ولا أن تختلف معهم.

أمّا من يعمل في أجهزة النّظام أو في إعلامه، فهو يمارس "التطبيل" كقدرٍ لا هروب منه، وضرورة "الوظيفة»؛ بل يُقال إنك لو التقيتهم على المستوى الشخصي، فقد تجدهم أشخاصاً دمثين لا يشبهون مزاجهم الكاسر في العلن، ويقولون لك ببساطةٍ أنّهم ينفّذون الأوامر (على الهامش: طالما أنّنا في جوّ أفلام المافيا والاغتيالات و«لعبة العروش»، أريدكم أن تلاحظوا أنّ وزير الخارجيّة السّعودي، عادل الجبير، يشبه إلى حدّ عجيبٍ السّحرة المشعوذين في مدينة «كارث» فيما السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، يحمل شبهاً صاعقاً بقائد جيش الخصيان للملكة «ديناريس» - استخدموا "غوغل" وقارنوا الصّور).
المفارقة، بالطبع، هي أنّ هذه الأمور كانت كلّها تجري فيما ماكينة دعاية الأمير، في الشّرق وفي الغرب، تتكلّم عن ولي العهد "المنفتح" وتمتدح خططه الاقتصادية ونشاطاته الترفيهيّة و«محاربته للتطرّف»، فيما الأمراء والنّخب ترتعد في منازلها. ومن بين هؤلاء - كما ذكّر الصحافي غلين غرينوولد - الكاتب الشهير في "واشنطن بوست" دايفيد اغناطيوس الذي، يضيف غرينوولد، له ماضٍ طويل في العلاقة مع المخابرات الأميركية والتماهي مع أجنداتها. اغناطيوس اليوم يلمّح - كصحفٍ غربية أخرى - إلى احتمال أن يُستبدل بن سلمان بوليّ عهدٍ أكثر "أماناً" للنظام السعودي ولحلفائه. بهذا المعنى، قد تكون قضيّة خاشقجي جزءا من تراكمٍ طويل يؤدّي إلى تغييرات داخليّة، وقد يكون ضربةً معنويّة تستغلّها أطرافٌ داخلية سئمت سطوة بن سلمان وبطشه. وقد لا يتغيّر شيء، وتشتدّ قبضة بن سلمان، ويدخل الإعلام العربي والسياسة في مرحلةٍ مظلمة شرسة، أسوأ حتى مما عرفناه في السنين الماضية. ولكنّ هذا كلّه في علم الغيب ولا تؤثّر عليه الحروب الإعلامية، بل يقرّر أساساً بين الرياض وواشنطن.

خاتمة: عن الأهمّ

في اليوم ذاته الذي بدأ فيه الرئيس الأميركي بالدّفاع العلني عن النّظام السعودي والتمهيد لتبرئة رأسه من وزر الجريمة، كان التّحالف السعودي - الأميركي يضرب، مجدّداً، باصاتٍ تقلّ أناساً فقراء في اليمن، وتقتل على الأقل 17 مدنياً. من المعيب أن نقارن شهداء اليمن بحبائل الاغتيالات والمخابرات، وكلّ ما ذكر أعلاه، حتّى وإن كان العالم يستمع إلى "واشنطن بوست" ولا يصغي إلينا. قضيّة الكاتب المختفي تصلح مادّة مثاليّة لإعلام البروباغاندا، من الجهتين، الذي يبحث أمّا عن تزييف الواقع وتضييع الحقيقة، أو عن سرديّة "ضحيّة" مريحة، يمكن إخراجها تلفزيونيّاً، تجذب المشاهدين وتستخدم في البازار (ومن تاجر بالدماء لسنواتٍ لن يستنكف حين يُقتل خاشقجي). أمّا قضيّة اليمن وأهله، فهي "السياسة" بالمعنى الحقيقي: أن تقف في وجه القوّة، أن تحارب الظّلم حقّاً، خياراتٌ صعبةٌ وصراع على مصير الشّعوب ومستقبلها. بن سلمان الحقيقي عرفناه في اليمن والعراق وسورية، وعرفناه بأسماء متعددة، ولا نحتاج إلى "اختطاف\اغتيال" حتّى نعيد النّظر في الأمر؛ والفارق بيننا وبين الأمريكان هو أننا نعرف أنّه، بالنسبة إلينا، لن يكون من يخلفه أفضل منه.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/10/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد