آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الباري عطوان
عن الكاتب :
كاتب وصحفي سياسي فلسطيني رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم

التحرّك الروسيّ الصينيّ للإطاحةِ بالدّولار الأمريكيّ بَدأ وبشكلٍ مُتسارعٍ..

 

عبد الباري عطوان

إدارة الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب باتت “مُدمنة” على فرض العُقوبات على الدول التي لا ترضخ لإملاءاتِها، كبيرةً كانت مِثل الصين وروسيا، أو متوسّطة مِثل إيران، أو صغيرة لبنان (حزب الله) وقِطاع غزّة (حركة حماس)، ولكن هذه العُقوبات بدأت تُعطي نتائج سلبيّة ليس على الاقتِصاد الأمريكيّ فحسب، وإنّما بإنهاء تدريجيّ لهيمنة الدّولار كوحدة قياس للعُملات العالميّة من حيث تحديد سِعرها، والعمود الفقريّ لمُعظم التبادلات الجارية عالميًّا.

الرئيس ترامب تعهّد في حملته الانتخابيّة الرئاسيّة عام 2016 أن يُعيد “العظمة” لأمريكا، واتّباع سياسة “حمائيّة” وإشعال فتيل الحروب التجاريّة مع الصين وروسيا والاتّحاد الأوروبي، الأمر الذي وحّد جميع هذه الدّول ضِد هدفٍ واحدٍ مُعلنٍ وهو إنهاء الهيمنة الاقتصاديّة الأمريكيّة والبحث عن عُملاتٍ بديلةٍ للدّولار.

الصين قرّرت ابتِداءً من العام الجديد شراء مُعظم احتياجاتها من الطاقة (النفط والغاز) بعملتها المحليّة “اليوان” خاصَّةً من إيران، وجعلت روسيا من عُملتها المحليّة الروبل، أو عُملات شُركائها التّجاريين مثل تركيا والهند، البديل للدّولار في جميع المُعاملات التجاريّة، في خطوة رئيسيّة للالتِفاف على العُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة، الأمر الذي أدّى إلى فشلها، وأبرزها ضِد إيران، بطريقةٍ أو بأُخرى، وتهديدات ترامب بتدمير الاقتصاد والليرة التركيّة.
***
البيانات التي نشرتها وزارة الخِزانة الأمريكيّة في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أظهَرت أنّ الصين (أكبر دائن لأمريكا) وروسيا خفّضتا حيازتهما من السّندات الأمريكيّة، وفعّلت المملكة العربيّة السعوديّة الشّيء نفسه، وغادرت قائمة أكبر عشر دول حائِزة عليها.

قيمة السّندات الأمريكيّة التي في حيازة الصين بلغت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي 1.21 تريليون دولار، بالمُقارنة مع 1.38 في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، بانخِفاض مقداره حواليّ ملياري دولار في غُضون شهر فقط، وقلّصت روسيا حجم حيازَتها للسّندات نفسها وفي غُضون شهر أيضًا بحواليّ 1.8 مليار دولار، حسب ما ذكرته وكالة بلومبيرغ  الأمريكيّة.

هذه التّخفيضات المُتسارعة تأتي في إطار خطّة تهدف للابتعاد عن الدولار، الذي بدأ في التصدّع نتيجة تصاعد الأصوات المُطالبة بالبدائل، مِثل جان كلود يونكر، رئيس المفوضيّة الأوروبيّة، الذي وصف إجبار أمريكا للأوروبيين على شراء السلع الأمريكيّة بالدولار بـ”السّخيف” و”المُهين”، بينما قال وزير الماليّة الفرنسي برونو لوماير أنّه يريد أن تكون حكومة بلاده وميزانياتها وتبادلها التجاري غير مرتبط بالعُملة الأمريكيّة، وبدأ قادة الاتّحاد الأوروبي يسمحون لشركات بلادهم بالتٍعامل مع شركات في الدول النامية بنظام دفع بالعُملات المحليّة للالتِفاف على أيّ عُقوبات أمريكيّة، والشركات الإيرانيّة من بينها.

هيمنة الدولار الأمريكي بدأت في مؤتمر “بريتون وودز” الشهير الذي انعَقد عام 1944 بحُضور الدول المُنتصرة في الحرب العالميّة الثانية بقيادة أمريكا وبحُضور 44 دولة أخرى، وجرى اعتِماد الدولار عملة أمريكا، الدولة المستقرة القويّة اقتصاديًّا، والتي تملك 75 بالمئة من احتِياطات الذهب في العالم في حينها، الأساس في تحديد قيمة العُملات الأُخرى، وأسعار الذهب (32 دولار للوقية)، ولكن الرئيس الأمريكيّ ريتشارد نيكسون اتّخذ قرارًا عام 1973 بفك ارتِباط الدولار بالذهب، وباتت الحُكومات الأمريكيّة تطبع الكميّات التي تُريد لمُواجهة أقساط ديونها والأزمات الاقتصاديّة (تبلغ فوائد الديون الامريكية حاليًّا أكثر من تريليون دولار سنويًّا).

إيران بدأت الآن تلجأ إلى العُملة الافتراضيّة “البيتكون” لمُواجهة الحِصار الأمريكي الخانق، وتمنّت كتائب عز الدين القسّام الذّراع العسكري لحركة “حماس” على حُلفائها وأصدقائها التبرّع لها بالعُملة نفسها لكسر الحِصارين الإسرائيليّ والعربيّ المَفروضَين عليها، والحِصار العربيّ يشمل سلطة رام الله أيضًا.

القُوّة الأمريكيّة الحقيقة تأتي من هيمنة عُملتها على اقتصاديّات العالم بأسره، وليس من القُوّة العسكريّة مثلما يعتقد الكثيرون، وإن كان لا يجب التّقليل من أهميّة الأخيرة، فهُناك قِوى عُظمى باتت تملك رؤوسًا نوويّةً وصواريخ باليستيّة، تفوق مجتمعة الترسانة النوويّة الأمريكيّة، ونحن نتحدّث هُنا عن روسيا والصين، وحتى كوريا الشماليّة التي باتت تُشكّل بزِرّها النوويّ “الصّغير” تهديدًا لأمريكا.


إذا كان الرئيس ترامب قدّم خدمات جليلة للبشريّة من جرّاء سياساته المُتهوّرة، وحروبه التجاريّة، وحِصاراته الاقتصاديّة، فإنّ أبرزها إظهاره خُطورة هيمنة الدولار على اقتصاديّات العالم وأمنه واستقراره، وتوحيد القوى العُظمى المُوازية بقِيادة روسيا والصين لإنهاء هذه الهيمنة بأسرعِ وقتٍ مُمكنٍ، وربّما لهذا السّبب بدأت الدولة الأمريكيّة العميقة تحرّكها في الكونغرس لوضع حدٍّ لحماقاته، ونقض جميع قراراته، مِثل الانسحاب من سورية وأفغانستان، وبناء السّور على حُدود المكسيك، وفتح مِلفّات التدخّل الروسيّ في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة، واتّهام الأمير السعوديّ محمد بن سلمان بالوقوف خلف جريمة اغتيال جمال خاشقجي.
***
نحن كعرب ومُسلمين أبرز ضحايا الهيمنة الأميركيّة هذه، سواء الاقتصاديّة أو العسكريّة، التي تقف خلف جميع الحُروب في المنطقة، وزرع بُذور الدّمار والفوضى فيها، وتخفيض أسعار النفط، لحِرمان الشعوب من ثمارها، والاستِيلاء على مُعظم عوائدها الماليّة، بطُرقٍ مُباشرةٍ، أو غير مُباشرة، وخلف الخَطر الإيرانيّ وتَضخيمِه كأداةِ ضغطٍ فاعِلةٍ في هذا الإطار.

انهِيار الدولار الأمريكيّ، وسُقوطه من عرش الهيمنة الاقتصاديّة سينزل بردًا وسلامًا على قُلوب وصُدور كُل الشّعوب المقهورة سواء في الشرق الأوسط، أو إفريقيا، أو أمريكا الجنوبيّة، التي عانَت وتُعاني مِن الحِصارات وأساليب الابتِزاز الأمريكيّة.

لا يُمكِن أن ننسى في هذه العُجالة الزّعماء العرب الذين طالبوا باعتِماد سلّة من العُملات لتسعير برميل النّفط وإنهاء هيمنة الدولار مثل الرئيس هواري بومدين، وصدام حسين، ومحمد مصدق (إيران)، والعقيد معمر القذافي، الذي رصد ما قيمته 300 مليار دولار لصك الدينار الإفريقيّ، وكذلك هوغو شافيز، ملك الفُقراء في أمريكا الجنوبيّة والعالم، وأنّ هؤلاء كانوا روّادًا، وضحّوا بحياتهم من أجل هذا الهدف، أيّ إنهاء خطر “الدولار”، الذي تنبّهت إليه روسيا والصين ودول الاتّحاد الأوروبيّ الآن.

إذا كان سُقوط الدولار يُنهي الطّاعون الأمريكيّ الذي دمّر العالم، وقتل الملايين من الأبرياء في فيتنام والعراق وليبيا وسورية، فأهلًا بِه، ومرحبًا بكُل الذين يعملون من أجلِه.

الاقتصاد، ومثلما يجمع مُعظَم الخُبراء، كان خلف انهِيار الاتّحاد السوفييتي، طبعًا لا نُنكِر العوامل الأُخرى، وانهِيار الدولار إذا حدث سيُؤدّي إلى نزع أنياب ومخالب الوَحش الأمريكيّ المسعور.. وكُلّنا ثقة أن العد التنازليّ قد بَدأ، ونَراها قريبةً جِدًّا.. والأيّام بيننا.


صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2019/02/03

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد