آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

التلوث البيئي الخطير: ما نحن فاعلون؟

 

  د. سعيد الشهابي

ما حدث في عدد من دول الشرق الأوسط منذ بداية هذا الشهر مؤشر مقلق لنمط التطورات البيئية والتقلبات المناخية في هذا الكوكب. فيضانات غير مسبوقة في إيران ادت لخسائر مادية وبشرية كبيرة وضغطت على نظام محاصر لا يمتلك مخزونا ماليا كبيرا، حتى اضطر زعماؤه لسحب ملياري دولار من ذلك الاحتياط للقيام بأعمال الإغاثة وإعادة البناء في المناطق المنكوبة. وفي غضون ساعتين الأسبوع الماضي تحولت البحرين إلى بحيرات مائية استخدمت فيها القوارب الآلية، وحدث الأمر نفسه في الكويت والسعودية. أما في أوروبا فقد شهدت شتاء دافئا بشكل غير معتاد، بينما شهدت بلدان عديدة ظواهر طبيعية غير مألوفة خصوصا الفيضانات ودرجات الحرارة المنخفضة، والحرائق التي أتت على مساحات هائلة من الولايات المتحدة الأمريكية العام الماضي. وفقا للفلكي الكويتي، صالح العجيري، فإن ظاهرة الفيضانات سوف تتكثف في السنوات المقبلة، وناشد حكومته الاستعداد لذلك ببناء السدود وإعادة النظر في البنية التحتية التي لم تصمم وفق هذه المتغيرات. ولم تسلم سلطنة عمان من الفيضانات في السنوات الأخيرة وآخرها في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ويعاني الخليجيون من ارتفاع درجات الحرارة في شهر الصيف وانخفاضها في الشتاء إلى مستويات غير مسبوقة.

في ظل هذه الحقائق أصبح أمرا ملحا التأكيد على ضرورة إعادة قراءة هذه التغيرات البيئية والتعاطي مع أسبابها ووسائل الحد من آثارها السلبية. الواضح أن الإعلام الدولي لا يوفر لهذه الظاهرة مساحة مناسبة، الأمر الذي أدى لغياب الوعي العام بالأسباب، فاستمر التداعي البيئي بدون توقف. في الثمانينيات من القرن الماضي بدأ الحديث عن تآكل طبقة الأوزون وانعكاس ذلك على درجات الحرارة وأثره على منسوب البحار والمحيطات. وتمت الإشارة لاحتمالات خطيرة من بينها اختفاء بعض الجزر نتيجة ذلك. بل قيل أن البحرين مثلا ستشهد تآكلا في حدودها البحرية وربما انغمارها بالمياه نظرا لانخفاضها عن مستوى البحر. ولكن الجهود الدولية كانت أقل كثيرا من المتوقع. فالإجراءات الضرورية تتطلب تضحيات من الدول والشركات العملاقة التي لا تفكر في شيء سوى الارباح باية وسيلة. وبعد مؤتمرات وحملات إعلامية واسعة اتخذت إجراءات محدودة كمنع استخدام بعض المواد في أجهزة التبريد وتقليص الغازات السامة التي تنفثها عوادم السيارات ونسبة الرصاص في الوقود. من المؤكد أن هذه إجراءات ضرورية ونافعة ولكنها لا تكفي لمنع التداعي البيئي الذي له أسباب أخرى. فالتغيرات المناخية ربما ارتبطت بتآكل طبقة الاوزون، ولكن المشاكل البيئية الحالية لها علاقة بالنمط الاستهلاكي الذي يتوسع في العالم بمستويات واشكال مرعبة.

منذ نصف قرن بدأ استخدام مادة البلاستيك ثم توسع ذلك حتى أصبح ظاهرة مرعبة، بحيث لم يبق مجال إلا دخلته تلك المادة. وفي الوقت الذي يطرح البيئيون المخاطر الجمة لهذه المادة واستعمالاتها التي توسعت في كافة مجالات الحياة من السيارات إلى الأدوات المنزلية وأثاث المكاتب وأدوات الأكل وقنينات الشراب والتغليف وسواها، فثمة حسابات معقدة حول طرق تصنيعها السهلة نسبيا وخفة وزنها مقارنة بالحديد أو الزجاج. وربما يتحول السجال حول هذه المادة تدريجيا إلى البحث عن طرق أفضل لاستخدامها، وتقليص المجالات التي تكرس ظاهرة الاستهلاك غير المقنن. فتوسع استخدام المواد البلاستيكية بدون حدود خصوصا في الاستهلاك الشخصي مثل قنينات الماء والشراب والكؤوس والصحون البلاستيكية احدث ظواهر بيئية مثيرة للتقزز.

توسع نطاق استخدام الأسمدة الصناعية في الزراعة ودخول الهندسة الجينية في الكثير من المحاصيل الزراعية وكذلك اللحوم والأسماك، الأمر الذي لا يخلو من أخطار صحية ربما ساهمت في انتشار مرض السرطان على نطاق واسع

فمشهد الانهار المكتظة بالمواد البلاستيكية ووصول تلك المواد إلى  بطون المحيطات، ومشهد الحيتان العملاقة ميتة نتيجة امتلاء بطونها بهذه المواد التي تحول دون قدرة هذه الحيوانات على بلع الطعام، كل ذلك من العوامل التي دفعت نشطاء البيئة في السنوات الأخيرة للاقدام على فعاليات تهدف لأمور ثلاثة: أولها نشر وعي عام بضرورة الحد من استخدام هذه المواد على النطاق الشخصي والعائلي والتجاري، ثانيها: الضغط على الحكومات لاتخاذ إجراءات وسياسات للبحث عن مواد أخرى أكثر انسجاما مع البيئة، من حيث الإنتاج والتلاشي (أي إمكان ذوبانها ضمن الدورات الطبيعية للمواد العضوية غير المصنعة كالأشجار والأوراق والمواد العضوية الأخرى)، ثالثها: تكثيف الضوء على ممارسات الشركات العملاقة التي تبحث عن الأرباح باقصر الطرق بدون الاهتمام بالانعكاسات البيئية لطرق التصنيع والاستهلاك التي تمارسها.
ومنذ اربعة عقود بدأ تفكير العالم بشكل جدي في طرح تشريعات ومعاهدات دولية لإحتواء ظاهرة التلوث وانتشار الغازات المضرة بالبيئة خصوصا ثاني اوكسيد الكربون في الهواء. ومن هذه الاتفاقيات: اتفاقية تغير المناخ وبرتوكول كيوتو، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر(UNCCD)، اتفاقية فينا وبروتوكول مونتريال للمواد المستنزفة لطبقة الأوزون، اتفاقية لندن لحماية البيئة البحرية من النفايات 1972، اتفاقية حضر إنتاج وتطوير واستخدام الأسلحة البيولوجية والكيماوية 1972م، بروتوكول سنة 1978 المتعلق بالاتفاقية الدولية للحد من التلوث الناجم عن الشحن ومعاهدة منع التجارب النووية في الغلاف الجوي والفضاء الخارجي وتحت الماء. وهناك عشرات الاتفاقات والمعاهدات التي يفترض أن تلزم الدول بانتهاج سياسات تحول دون التأثير السلبي على البيئة، ولكن المشكلة أن أطماع الدول وتنافسها على التصنيع والتسويق وتقليل تكاليف الإنتاج، وغياب الإيمان الحقيقي بالخطر المحدق بالإنسانية نتيجة تلوث البيئة وتأثير ذلك على المناخ، كل ذلك يحول دون تنفيذ تلك الاتفاقات أو الالتزام ببنودها. وتبدو الولايات المتحدة واحدة من أكبر معوقات توسيع دائرة الاهتمام الدولي بالبيئة. فقد سحب الرئيس الامريكي الحالي دونالد ترامب بلاده في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 من اتفاقية باريس للمناخ التي اتفقت دول العالم عليها في العام 2015، وتعتبر واحدة من أهم الاتفاقات الدولية للحفاظ على البيئة. وفي العام الماضي اتفقت أكثر من 200 دولة اجتمعت في المانيا على إطلاق عملية لبدء مراجعة الخطط القائمة للحد من انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري في إطار جهود طويلة الأمد لرفع سقف الآمال بالسيطرة على الوضع المناخي.

الأمر المؤكد أن التغيرات المناخية التي يشهدها العالم بشكل متصاعد في السنوات الأخيرة توحي بدور بشري في التداعي البيئي، وتؤكد أن التشريعات القائمة أما أنها لا تكفي لذلك أو أن دول العالم لا تلتزم بها بشكل مناسب. أيا كان الأمر فقد أصبح الوضع يتطلب اهتماما أكثر جدية وأقل تسييسا. وقد عمد الغربيون للتعتيم على التلوث البيئي الناتج عن التوسع في الصناعات النووية، وخطر الاشعاع على البيئة العالمية. وتمثل كارثتا مصنع بوبال في الهند (1984) وانفجار المفاعل النووي»تشيرنوبل» في روسيا (1986) بعض جوانب الانعكاسات الخطيرة لهذه المفاعلات على البيئة. ويمثل التخلص من النفايات النووية تحديا آخر للمجتمع البشري المعاصر الذي أصبح أكثر تحسسا من تسرب المواد النووية والاشعاعية. مع ذلك يهرول بعض حكام الخليج لبناء مفاعلات نووية في منطقة هي الاغنى في النفط والطاقة الشمسية التي لا تنفذ. مئات المليارات سوف تنفق على بناء هذه المفاعلات في اطار السباق النووي بذريعة الحفاظ على التوازن مع إيران. وسيضيف هذا القرار المزيد من المتاعب البيئية لمنطقة بدأت تدفع فاتورة التلاعب بالبيئة بشكل مقيت. فقد نجم عن استنزاف المياه الجوفية في الجزيرة العربية نفاد المياه الصالحة للشرب تماما، واستبدالها بمحطات تحلية المياه الباهظة التكاليف واحد مصادر التأثير السلبي على البيئة. يضاف إلى ذلك توسع نطاق استخدام الأسمدة الصناعية في الزراعة ودخول الهندسة الجينية في الكثير من المحاصيل الزراعية وكذلك اللحوم والأسماك، الأمر الذي لا يخلو من اخطار صحية ربما ساهمت في انتشار مرض السرطان على نطاق واسع خصوصا بدون مجلس التعاون والعراق.

ولذلك جاءت مبادرة المجموعة المدافعة عن البيئة الأسبوع الماضي بإعلان عصيان مدني أدى لغلق أهم المناطق التجارية والسياحية وسط العاصمة البريطانية تعبيرا عن شعور بالإحباط من جهة، والغضب إزاء حالة اللامبالاة على الصعيد الرسمي الدولي الذي تمثل السياسات الإمريكية ذروتها، والشعور بالمسؤولية إزاء مستقبل هذا الكوكب والأجيال المقبلة.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/04/22

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد