آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. عصام نعمان
عن الكاتب :
محامٍ لبناني منذ 1973 يحمل الإجازة في الحقوق ، شهادة الدكتوراه في القانون العام ، شهادة الماجستير في العلوم السياسية ، وشهادة البكالوريوس في الإدارة العامة أستاذ محاضر في القانون الدستوري ، كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية 1979 – 1989

لبنان: من الحراك إلى الحركة دعوة للانتظام والتفعيل

 

عصام نعمان

بعد ما يزيد عن ثلاثين يوماً من انطلاقه في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، يمكن القول إن الحراك الشعبي بات على مفترق، المراوحة في حال التعدّد المفضي إلى التبدّد، أو الانتظام في إطار يرعى التفاعل والتفعيل ويعزّز الإنتاج والإنجاز.
الحراك في وضعه الراهن هبّة غضب شعبي، ضد الظلم والفساد والتسلط بلغت ذروتها أو كادت، لكنها لم تحقق مبتغاها. السبب؟ لأنها كّم هائل من أفراد وتجمعات شديدة التنوّع، ذات سيولة ومرونة، تسع وتتسع لكل الأذواق والأشواق والمطالب والمطامح. إنها ضد منظومة سياسية معروفة، لكنها ليست مع أي نظام موصوف متميّز عنها. إنها حالة وليست حركة.
ما تقدّم بيانه ليس حكماً على الحراك، بل هو توصيف له. صحيح أنه ظاهرة فريدة غير مسبوقة في تاريخ لبنان السياسي المعاصر، من حيث أنها عابرة للمناطق والطوائف والمشارب، لكن بقاءها في حال لزوجة وسيولة، يحدّ من قدرتها على الفعل والإنجاز. المطلوب تحويل الحراك من حالة إلى حركة، إنها دعوة للانتظام والتنظيم والتفعيل.
مشروعيةُ هذه الدعوة ومسوّغاتها كثيرة. أحزابنا السياسية شائخة ومترهلة. معظمها وليد النصف الأول من القرن المنصرم، بعضها سابق للحرب العالمية الثانية وبعضها الآخر سابق لنكبة العرب الكبرى في فلسطين. ما من حزب سياسي ذي عقيدة وبرنامج، استطاع بقوته الذاتية الوصول إلى عضوية مجلس النواب، حتى مَن استطاع منهم الوصول بنائب أو اثنين كان ذلك مردّه إلى تلازمٍ وتعاون مع زعامة طائفية متجذّرة.

تستبين الحاجة الاستراتيجية إلى تطوير الحراك من حالة شعورية إلى حركة سياسية بغية الانتقال من الانفعال إلى الفعل

إلى ذلك، ثمة سبب آخر لضّآلة فعالية الأحزاب العلمانية، فقد اعتنق كلٌ منها عقيدةً أو أيديولوجيا بدت للمواطنين الوطنيين غير الطائفيين كأنها دين آخر منافس للأديان والطوائف الأخرى، التي تضج بها ومنها البلاد. وأنهم مدعوون إلى اعتناقه. هؤلاء المواطنون، في معظمهم، ما كانوا راغبين بعدما انفصلوا عن ثقافة طوائفهم ومؤسساتها، أن يعتنقوا ديناً جديداً ليصبحوا، بحكم الواقع الطائفي اتباع «طائفة» أخرى تنضاف إلى عديدها المتورّم.
ليس أدلّ على ظاهرة التبرّم من الطوائف والطائفية من نزوع اللبنانيين، أفراداً وتجمعات، إلى إيثار صيغة الكتلة أو التكتل بديلاً من الحزب ذي الأيديولوجيا الصارمة. لعل هذا ما يفسر قيام الكتلة الدستورية (بشارة الخوري ورفاقه) في وجه الكتلة الوطنية (أميل أده ومحازبيه)، قيام الجبهة الاشتراكية الوطنية (كمال جنبلاط ورفاقه) ضد الكتلة الدستورية أو ما تبقّى منها، وتكتل النهج الشهابي (فؤاد شهاب ومريدوه) ضد الحلف الثلاثي (كميل شمعون وريمون أده وبيار الجميل) والحركة الوطنية (ائتلاف أحزاب اليسار والناصريين بقيادة كمال جنبلاط) ضد جبهة الحرية والإنسان، وريثة الحلف الثلاثي الآنف الذكر، بعدما آلت قيادتها إلى شمعون بادئ الأمر، ثم إلى بشير الجميل.
بعد الحرب الأهلية 1975- 1990 ورغم إنهائها بوثيقة الوفاق الوطني (الطائف) لم تشهد الساحة اللبنانية قيام جبهة أو كتلة سياسية عابرة للطوائف ذات شأن. من هنا تنبع، إذن، أهمية الحراك الشعبي المنطلق في 17 أكتوبر الماضي من حيث انه حالة شعبية عابرة للمناطق والطوائف والمشارب وذات تأثير وطني شامل.
غير أن الحراك ليس جبهة أو كتلة، فهو لم يرتقِ بعد إلى ذلك المستوى الأعلى تماسكاً والأكثر فعالية. صحيح أنه حقق، بمجرد انطلاقه واستمراره، نجاحاً ملحوظاً من حيث تعبئة جماهير واسعة ضد نظام المحاصصة الطائفية، ما أدى إلى تصديع هيكله والتسبّب في استقالة حكومته، إلاّ أنه لم يتطور إلى تكتل سياسي متماسك ذي اهداف وبرنامج سياسي متميّز. في ضوء هذه الواقعات والتطورات، تستبين الحاجة الاستراتيجية إلى تطوير الحراك من حالة شعورية إلى حركة سياسية بغية الانتقال من الانفعال إلى الفعل. ذلك يتطلّب جهوداً مركّزة من عناصر جدّية وجادة، كأركان «الحراك الشعبي للانقاذ»» بغية بناء جبهة سياسية ديمقراطية تجديدية بصيغة إئتلاف للأفراد والتجمعات والتشكيلات الاجتماعية الوطنية والتقدمية، المتطلعة إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية تقوم على أسس الحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون والعدالة والتنمية.

ليس المطلوب حركة تكون بمثابة حزب سياسي وأيديولوجي ذي تنظيم حديدي وسلوكية متشددة. هذا النمط من الأحزاب ما عاد قائماً أو رائجاً في العالم المعاصر. الحركة المطلوبة هي ائتلاف عريض القاعدة الشعبية ذو برنامج سياسي واقتصادي أو اجتماعي متطور، وسلوكية مرنة، وانفتاح على الآخر السياسي والثقافي. المطلوب تحويل التعدّد اللبناني المرهق إلى توحّد حضاري حر ومتطور. بمثل هذه الحركة الجامعة والفاعلة نستطيع إسقاط نظام المحاصصة الطائفية. هل من مقاربة أجدى وأفعل؟

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/11/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد