آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
وليد شرارة
عن الكاتب :
باحث في شؤون العلاقات الدولية وأستاذ العلاقات الدولية

السودان وهجمة الاختراق الإسرائيلية

 

وليد شرارة 

الرئيس التونسي قيس سعيّد محقّ في اعتراضه على استخدام كلمة «تطبيع»، لوصف اعتراف أطراف عربية بالكيان الصهيوني، وإقامة علاقات سياسية واقتصادية وثقافية معه. من منظور وطني وقومي، وحده مصطلح خيانة يعبّر عن حقيقة مثل هذا الفعل الذي يضرب عرض الحائط بمصالح الأمة وجميع شعوبها وتطلّعاتها إلى الاستقلال والنهضة والوحدة. لقد مُنعت شعوب الأمة من تحقيق هذه التطلّعات بسبب منظومة السيطرة الغربية المُطبقة عليها منذ بدايات القرن العشرين، والتي يحتلّ فيها الكيان الصهيوني موقعاً مركزياً منذ أواسطه. لكن ما يزيد الأمر خطورة اليوم هو أن استماتة بعض الأنظمة والنخب لبناء علاقات مع إسرائيل، قد تصل إلى حدّ التحالف، تتزامن مع جملة تطورات بالغة الخطورة شهدتها المنطقة في العقدين الماضيين، كاندثار النظام الإقليمي العربي ومؤسّساته، وتحوّل عدد من دوله إلى دول متداعية تحتدم فيها التناقضات والانقسامات الداخلية. ولا شك في أن سلسلة الانتفاضات الشعبية التي انفجرت في الإقليم العربي بدءاً من سنة 2011، كانت نتاجاً لهذا الواقع، بمعزل عن مآلاتها في مراحل لاحقة بفعل تضافر جملة من المؤثرات الداخلية والخارجية. اندثار النظام الإقليمي العربي، الذي تعود بداياته إلى دخول العراق إلى الكويت عام 1990، تسارعت وتيرته في السنوات الماضية، ويفضي اليوم إلى إعادة تموضع استراتيجي لقسم كبير من دول الخليج، تَمثّلت في الاتجاه إلى التحالف العلني مع إسرائيل برعاية أميركية. 

التطور الثاني الشديد الخطورة هو صراع الخيارات في البلدان التي شهدت انتفاضات وهبّات شعبية بسبب استفحال الأزمة العامة لأنظمتها. ما يجري اليوم في السودان يقدّم مثالاً واضحاً عن كيفية دخول إسرائيل والولايات المتحدة، بمساعدة حلفائهما الخليجيين، على خطّ صراع الخيارات المذكور، والسعي إلى ترجيح الأنسب لهما على حساب المطالب والتطلّعات الأصلية للشعب السوداني. وفي حال النجاح، سنكون أمام سابقة قد تُوسّع عملية الاختراق الاسرائيلي، بغطاء أميركي وخليجي، للإقليم العربي، لا تقتصر على البعد السياسي، بل تتعدّاه إلى الأبعاد الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. فغياب القيادة التي تمتلك خطاً سياسياً واضحاً يقرن التغيير الداخلي بمواجهة الهيمنة الأميركية وهجمة الاختراق الإسرائيلية المستجدة، يفتح نافذة فرص واسعة أمام مروحة من القوى، تضمّ أجنحة في النظم القائمة وقطاعات من النخب السياسية والثقافية وأتباع منظمات الارتزاق غير الحكومية، لإنفاذ أجندتها المرتبطة بتلك الأميركية وحتى الإسرائيلية، في عدة بلدان يستعر فيها الصراع الداخلي، وليس في السودان وحده.

صراع الخيارات ونخب الخيانة
إنشاء تحالف إسرائيلي - عربي هو أحد الأهداف المُعلَنة لـ«صفقة قرن» الرئيس الأميركي الأخرق، دونالد ترامب. وإذا تَأمّلنا الأحداث المتواترة في السنتين الماضيتين، خاصة في الأشهر الأخيرة، فسنجد أننا أمام تزايد في اللقاءات بين المسؤولين الخليجيين والإسرائيليين، ومشاركة بعض الأوّلين في همروجة الإعلان عن «صفقة القرن»، ومباركتها باعتبارها جهداً محموداً من البعض الآخر، وسيل كبير من المعلومات عن حجم التعاون السياسي والأمني والاقتصادي والتكنولوجي بين الطرفين الإسرائيلي والخليجي، وحملة فكرية - سياسية شرسة للترويج لهذا التحالف. آخر فعاليات هذه الحملة هي الدعوة التي أطلقها ما يسمى «المجلس العربي للاندماج الإقليمي» لإدانة جميع أشكال مقاطعة إسرائيل، واقتراح حلّ عربي للصراع معها يكون بديلاً من السياسة المعتمدة من قِبَل السلطة الفلسطينية وحركة «حماس» على حدّ سواء. يضمّ المجلس مجموعة من «الشخصيات»، النكرات في الواقع، تعمل في المجال العلمي والأكاديمي والثقافي والقانوني والإعلامي من 15 دولة عربية، منهم إجلال الغيطة، وهو محامٍ يحمل الجنسيتين البريطانية والمصرية، ومحمد دجاني الداودي وهو أستاذ جامعي فلسطيني، ومحمد أنور السادات ابن أخ الرئيس المصري المقتول أنور السادات، والخبير العلمي التونسي أسامة سلمي، وسامي النصف وزير الإعلام الكويتي الأسبق، ومصطفى الدسوقي الصحافي المصري. الاهتمام الفرنسي والغربي بمجموعة النكرات هذه، التي اجتمعت في باريس في مقرّ «الجمعية الوطنية الفرنسية» بحضور 15 نائباً فرنسياً معروفين بميولهم الصهيونية وتلقّت «مبادرتها» دعماً من قِبَل طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كان لافتاً. المهمّ هو أن أحد أبرز محاور خطاب المجموعة هو «الفوائد الجمّة» التي سيجنيها العرب من جرّاء تعاونهم العلمي والتكنولوجي مع إسرائيل، وما سيوفّره هذا التعاون من قدرات لإطلاق دينامية تنمية اقتصادية في بلدان شبه منكوبة.

نحن أمام استعادة أكثر تطرّفاً لخطاب السادات الذي ربط التسوية بالتنمية والانفتاح

هذه الأطروحات نفسها هي التي يروّجها دعاة التحالف مع إسرائيل في السودان.

المعلومات الواردة في وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية والعربية أشارت جميعها إلى أن الاتصالات الإسرائيلية - السودانية تعود إلى سنة 2015، أي إلى عهد عمر البشير، وتمّت عبر محامٍ إسرائيلي يحمل الجنسية البريطانية ويعمل في «محكمة العدل الدولية» في لاهاي، اسمه نيك كاوفمان، وأن الأخير نَسّق بشكل كامل مع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شباط. لم تُعطِ هذه الاتصالات نتيجة بسبب الاعتراض الأميركي على عقد صفقة مع البشير، لكن الوضع اختلف جذرياً بعد إطاحته ووصول الفريق عبد الفتاح البرهان إلى رئاسة «مجلس السيادة» السوداني. حسابات البشير والبرهان وكذلك «حميدتي»، أي الفريق أول محمد حمدان دقلو، نائب رئيس «مجلس السيادة»، الذي استأجر خدمات شركة علاقات عامة كندية يملكها آريي بن ميناشيه، الإسرائيلي وعميل الموساد السابق، لتلميع صورته في الولايات المتحدة: توطيد العلاقات مع واشنطن عبر البوابة الإسرائيلية بحسب الاعتقاد الذي انتشر في أوساط العصابات الحاكمة في البلدان العربية منذ أوائل التسعينيات. لتسويغ هذا الخيار وكسب التأييد الشعبي له عبر الانتصار في معركة الأفكار، يلجأ أنصاره إلى ربط العلاقات مع إسرائيل بالتنمية، وبجذب الاستثمارات الأميركية والخليجية والتقانة والخبرة الإسرائيليتين. نحن أمام استعادة أكثر تطرّفاً لخطاب السادات الذي ربط التسوية بالتنمية والانفتاح، على النتائج الكارثية التي بات الجميع يعرفها اليوم طبعاً. العطب الرئيس في الوضع الحالي هو غياب قوة أو تحالف قوى يمتلك بديلاً آخر، مقنعاً وقابلاً للترجمة العملية، يتصدّى لخيار الخيانة على قاعدته. استمرار هذا الغياب يهدّد بتوسّع مدى الاختراق الاسرائيلي للمجال العربي إلى أبعد ممّا يظنه الكثيرون. وجميعنا يسمع، همساً أو بصوت منخفض حتى اللحظة، آراءً شبيهة بتلك التي تفوّه بها مبارك المهدي، داعية التطبيع مع إسرائيل، في أكثر من بلد عربي.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/02/15

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد