آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي دربج
عن الكاتب :
كاتب لبناني وباحث في العلاقات الخليجية ــ الإسرائيليةrn

عن «إرث» ترامب الذي لا يشبه أسلافََه


علي دربج

لا أحد داخل الولايات المتحدة وخارجها، بات قادراً على فهم شخصية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فالتنبؤ بما يفكر فيه الرجل أو ما سيُقدم عليه مستقبلاً، على صعيدي السياسة الخارجية والإجراءات العسكرية وحتى الاقتصادية، بات يعرّض صاحبه لتهمة «العرّاف».

صحيح أنّ الرئيس الحالي اشتهر بتقلّباته وغطرسته وغروره وحتى تهوره، أحياناً، فضلاً عن ارتكابه عدداً من الهفوات السياسية والدبلوماسية التي جعلته مثاراً للسخرية وعرضة للانتقاد مراراً، غير أنّ الخطوات السياسية والعسكرية والأمنية التي أقدم عليها (إعلان الرئيس الأميركي عن «صفقة القرن»، ومن قبلها إصداره أمراً باغتيال قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس «الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس في مطار بغداد في 3 كانون الثاني / يناير الماضي، فضلاً عن دخوله في حرب تجارية مع الصين)، والتي صنّفها البعض على أنها ضربٌ من الجنون، ووضعها آخرون في خانة الإنجازات الاستراتيجية التي تسجَّل له، أعطته دفعاً إضافيا للذهاب بعيداً في خياراته وقراراته التي لا بدّ من الاعتراف بأنّها اتسمت بجرأة كبيرة، لم يصل إليها أحد من أسلافه الذين ما زالت بصماتهم في السياسة الخارجية واضحة للعيان إلى يومنا هذا، ولا سيما أولئك الذين عملوا على افتراض أنّ العالم يحتاج إلى قيادة أميركية، ليس فقط بسبب القوة العسكرية أو الدولار، ولكن لأن الولايات المتحدة استثنائية.
غنيّ عن التعريف أنّ ترامب من أكثر الرؤساء إثارة للجدل في تاريخ أميركا، فجميع رؤسائها منذ فرانكلين روزفلت ومن كلا الحزبين (الجهموري والديمقراطي) استندوا في خلافاتهم إلى القيادة، على الإيمان بالاستثنائية الأميركية، التي لخّصها الرئيس هاري ترومان في عام 1947 بالعبارات التالية: «تتطلّع إلينا شعوب العالم الحرة للحصول على الدعم في الحفاظ على حرياتها. إذا تعثّرنا في قيادتنا، فقد نعرّض سلام العالم للخطر ــ وبالتأكيد سنهدد رفاهية أمتنا».
بذل هؤلاء الرؤساء قصارى جهدهم لتوضيح السياسة الخارجية كمهمة أخلاقية تستند إلى هذه الاستثنائية، التي تتمسّك بالمُثُل الليبرالية «العليا» كشعار دائم، وبرروا لماذا يجب أن تلعب الولايات المتحدة مثل هذا الدور النشط في السياسة الدولية، من خلال اعتبارهم أن العالم يحتاج إلى هذه الدولة الاستثنائية، وتأثيرها «الخيري». من هذا المنظور، كان من الطبيعي أن نستنتج أن ما كان صحيحاً بالنسبة إلى أميركا، كان صحيحاً للعالم الذي قدمت الولايات المتحدة نفسها كمنارة له.
في الواقع، هناك ثلاث أفكار أطلقها القادة الأوائل تؤكد الرواية الرئيسية للاستثناء الأميركي؛ الأولى: تفوّق الولايات المتحدة على بقية العالم، والثانية: ردهم سبب هذا التفوق إلى وجود دور خاص لها تلعبه في تاريخ العالم، فهي لديها مهمة أخلاقية لمتابعتها في الخارج، والثالثة: هو أنه عندما تصل الدول الكبرى الأخرى والإمبراطوريات، بالفعل، إلى مرحلة الذروة في قوتها وسطوتها، من الطبيعي أن تتعرّض وفي وقت ما مستقبلاً إلى الهبوط ويتراجع تأثيرها، لكنّ الولايات المتحدة لا ينطبق عليها هذا الأمر، لأنها ببساطة ستقاوم قانون التاريخ هذا.
بعد انتهاء الحرب الباردة، فسّر الأميركيون نهايتها على أنها تأكيد جديد للاستثنائية الأميركية: «بفضل الله». في عام 1998، قالت وزير الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في برنامج The Today Show: «يجب أن نستخدم القوة، لأنّنا أميركا؛ نحن الأمة التي لا غنى عنها. إننا نقف طويلاً ونرى أبعد من البلدان الأخرى في المستقبل، ونرى الخطر هنا علينا جميعاً. أعلم أن الرجال والنساء الأميركيين الذين يرتدون الزي العسكري مستعدون دائماً للتضحية من أجل الحرية والديمقراطية والطريقة الأميركية للحياة».
أما نظرة ترامب إلى أميركا، فمختلفة إلى حدّ ما. هو لا يأخذ بالرواية الرئيسية الكامنة وراء الاستثناء الأميركي، الذي آمن به جميع من تعاقبوا على قيادة تلك البلاد، بل يتبنّى قصة أخرى تقوم على أنّ الولايات المتحدة تشبه بشكل ملحوظ البلدان التي تحدّد نفسها بمصالح وطنية مادية وهوية وطنية عرقية. رفع ترامب شعار «أميركا أولاً» كنهج للسياسة الخارجية، واستتبع احتضانه له برفض المهمة الأخلاقية التي كانت أساسية لهذه السياسة الحديثة: تشجيع (من الناحية النظرية الليبرالية الدولية، واقتصادات السوق الحرة، وحقوق الإنسان). ينظر ترامب إلى العالم بشكل مشابه إلى حدّ ما للواقعيين: كمكان تنافسي، فوضوي حيث تكون كلّ دولة لنفسها، حيث التحالفات موقّتة، والأصلح فقط البقاء على قيد الحياة.
ومع أنّ الاستثناء هو العظمة، كما فسّره القادة أعلاه، لكن في قاموس ترامب الخاص فإن جعل أميركا «عظيمة» يعني جعلها ثرية اقتصادياً، قوية عسكرياً، وحماية التراث الثقافي المسيحي الأبيض للولايات المتحدة، حيث تدفع جماعات الإيفانجالیكال (المسيحيون اليمينيون) بالتعجيل لضمان سیطرة إسرائیل الكاملة على كلّ أرض فلسطین المقدسة، إيماناً منھا بأنّ ھذا يسرّع من عودة المسیح الثانیة. من هنا، يفعل ترامب كلّ ما بوسعه لاسترضاء هذه الجماعات التي يؤمن بعقيدتها.
كثيرون يتساءلون ماذا تعني كلمة «أميركا أولاً»؟ هل هو مفهوم أم شعار أم أجندة للسياسة الخارجية؟ «أميركا أولاً» هي في الواقع أشياء عدّة، كان أكثرها شهرة اسم المنظمة التي تأسّست في عام 1940 من أجل الضغط ضد التدخل الأميركي في الحرب العالمية الثانية. وفقاً للمؤرخ ميلفين ليفلر «ارتبطت أميركا أولاً بالعزلة والانعزالية والانفرادية والنازية ومعاداة السامية وسياسات الاسترضاء التي كافح الرئيس فرانكلين روزفلت للتغلّب عليها، بين عامي 1940 و1941». ترجم ترامب هذا الشعار باللجوء إلى سياسة الحماية الاقتصادية. ففي أول خطاب له، خلال حفل تنصيبه، اتّهم العالم بالاحتيال على الولايات المتحدة، قائلاً: «لقد جعلنا دولًا أخرى غنية، بينما تلاشت ثروة بلدنا وقوته وثقته في الأفق». وأضاف: «يجب علينا حماية حدودنا من ويلات البلدان الأخرى التي تصنع منتجاتنا، ومن سرقة شركاتنا، وتدمير وظائفنا. الحماية ستؤدي إلى قوة وازدهار كبيرين».تطبيقاً لبرنامج الحماية هذا، عمد ترامب عند توليه منصبه، إلى الانسحاب من شراكة عبر المحيط الهادئ ــ وهي اتفاقية تجارية استغرقت سبع سنوات للتفاوض عليها ــ وذلك لصالح الصفقات الثنائية التي قال إنها «ستشجع الصناعة الأميركية، وتحمي العمال الأميركيين، وترفع الأجور الأميركية». كذلك، أعاد التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية مع المكسيك وكندا. أمّا السمة المميزة لجدول أعمال الحماية لترامب، فكانت حرباً تجارية مع الصين.
العنصر الثاني المهم في برنامج ترامب «أميركا أولاً»، هو القومية العرقية التي تعدّ الأساس لنظرة ترامب إلى العالم وإلى إدارته. دعا هذا الأخير عدداً أقلّ من المهاجرين، وعمد إلى حظر دخول رعايا عدد من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة، من أجل الحفاظ على ثقافتها المسيحية البيضاء، واتهم أيضاً المهاجرين المكسيكيين بكونهم مغتصبين وتجار مخدرات، كما طالب أعضاء مجلس النواب من أصول أفريقية أو شرق أوسطية أو عربية بـ«العودة» إلى أوطانهم المفترضة. والقائمة تطول من الخطاب الإقصائي القائم على والعرق والدين.
في الواقع، إنّ استراتيجية ترامب الكبرى هي «مزيج متناقض من النزعة العسكرية المتشدّدة والتقليص الاستراتيجي، والاعتماد على الأحادية والعسكرة والتهديدات العدوانية والدعم الاستراتيجي للزعماء الاستبداديين في الخارج (حكام مشيخات الخليج مثالاً)».
تعتبر إحدى المقالات في مجلة «فورين أفيرز» أنه «لم يكن لدى الولايات المتحدة قطّ قائد عسكري جريء وساذج ومتغطرس مثل الرئيس الحالي». ففي ما يتعلق بمسائل الحرب والسلام، يقول ما يعنيه لكنه نادراً ما يفعل ما يقول، فهو كان وعد مراراً وتكراراً بإخراج الولايات المتحدة من النزاعات الخارجية الباهظة، وإعادة القوات الأميركية إلى الوطن، وتجاهل الالتزامات الخارجية المرهقة، ولا سيما إعلانه في خطاب حالة الاتحاد لعام 2019، أن «الدول العظمى لا تخوض حروباً لا تنتهي».
ولكن بعد حوالى من ثلاث سنوات في منصبه، لم تتحقّق عملية التخفيض التي وعد بها. لم يغيّر الرئيس بصمة عسكرية أميركية عالمية ورثها عن الرئيس باراك أوباما، وقبله جورج بوش الابن. كذلك، فقد أبقى العبء المكلف للدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة في عدد من الأماكن. على النقيض من ذلك، حمّل ترامب مسؤوليات عسكرية أكبر للولايات المتحدة، وزاد من انتشار القوات في أفغانستان، كما هدّد بالحرب مع كوريا الشمالية، ودعم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وفاقم النزاع مع إيران، وشجّع باستمرار على تعزيز القوة العسكرية، بما في ذلك تحديث الترسانة النووية الأميركية وإطلاق «قوة الفضاء». أكثر من ذلك، تجاهل ترامب نصائح وآراء القياديين معه، ذلك أنه من الواضح أنه ليست لديه مصلحة في السمع أو التأثّر بالحكم العسكري المهني للقادة العسكريين والمدنيين في البنتاغون، وفي مقدمتهم الجنرال جوزيف فوتيل، القائد الأعلى للقوات الأميركية في الشرق الأوسط ، الذي أكد أنه «لم تتم استشارته» و«لم يكن على علم» بإعلان ترامب في كانون الأول / ديسمبر 2019، عن نية الولايات المتحدة بأنها ستسحب قواتها من سوريا، معتقداً دائماً بأنّ خبرته العسكرية تفوق خبرة كلّ مسؤول مدني سابق.
يدور الحديث في واشنطن عن الخسائر التي لحقت بالسياسة الخارجية الأميركية، جراء قرارات ترامب الارتجالية، كالخروج من اتفاقية الشراكة مع الباسيفيك التي وقّعتها 12 دولة محورية، ومن معاهدة باريس للمناخ، ومن معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى مع روسيا، ومن ثم الإعلان عن الانسحاب المفاجئ من أوكرانيا وسوريا، الأمر الذي لم يلبث أن تراجع عنه فأبقى قواته للسيطرة على آبار النفط.
ووفقاً لمصادر أميركية مطّلعة، فإنّ ترامب تخلّى بصورة كاملة عن المعايير المهنية في صناعة القرار المتعلّق بالأمن القومي، إذ لم يعد يحضر اجتماعات مجلس الأمن القومي، منذ رحيل مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر (في نيسان / أبريل 2018) إلا نادراً، ويعتمد على حدسه من دون استشارة أحد، كما يهمّش المهنيين والخبراء في إدارته، فضلاً عن رسائله الارتجالية وتغريداته المتناقضة التي لا يستشير فيها أحداً، والتي تثير قلقاً متزايداً في المؤسسات الأمنية والعسكرية على حد سواء، وتنبئ بكوارث على الأمن القومي الأميركي.
بالنظر إلى عدم اهتمام ترامب بآراء المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين، وأسلوبه في أخذ القرارات المتهوّرة، فإنّ كل ذلك يجعل من الصعب على الدبلوماسيين ومخططي الدفاع الأميركيين إحراز تقدّم ملموس في إنهاء الحروب وضمان عدم البدء في حروب جديدة، وخصوصاً بعدما تبيّن أنّ هناك جهات رسمية وسلطات أميركية مؤثرة لم تكن على علم بضربة سليماني، كالكونغرس الذي وصف بعض أعضائه ما قام به الرئيس بأنه «أقرب إلى حرب كارثية أخرى في الشرق الأوسط» لن يكون أحد في العالم أجمع بمنأى عن تداعياتها.
وفقاً للعقيدة «الترامبية»، كانت الضربة الجوية التي قتلت قاسم سليماني بمثابة تذكير بأن الولايات المتحدة لا تزال القوة العظمى العالمية التي لا غنى عنها. وبذلك، أراد ترامب إثبات أنّ القوة العسكرية والاقتصادية لا تزال أكثر فاعلية من أي شيء آخر، طالما أن أولئك الذين يملكونها على استعداد لاستخدامها.
يلخّص مسؤول حكومي بريطاني نزعة ترامب العسكرية بالقول: «في عهد أوباما، كان الغرب قد نسي قوة الهيمنة المتصاعدة. بمعنى آخر، من يحمل أكبر عصا يحتفظ بهيمنته، طالما أنه مستعد لاستخدامها. أمّا لدى ترامب فحجّة التصعيد بسيطة وتقوم على الآتي: إذا كان الرد على أي عمل عدواني يقوم به خصم أجنبي هو دائماً التراجع من أجل تفادي تصاعد العنف، عندها تضيع الميزة التي تحملها الهيمنة العسكرية والاقتصادية، ما يخلق المزيد من الفوضى».
يرى سياسيون أميركيون أن الدروس الموجّهة من مقتل سليماني، تتناسب مع نظرة ترامب العالمية التي تؤكد الحاجة إلى خطوط حمراء واضحة في ما يتعلق بالمسّ بهيبة أميركا، فضلاً عن الرغبة في تخصيص موارد عسكرية أميركية لفرضها، وبالتالي توجيه رسالة إلى الجميع بأن أميركا عادت كشرطي عالمي، حيث يحاول ترامب استغلال هذا الأمر لفرض «صفقة القرن». يعتقد ترامب أنه بتصرّفاته تلك، عثر على آلية فعّالة لتعزيز المصالح الأميركية، لكنّه لم يثبت بعد أنه أفضل ممن سبقه في حلّ المشاكل الطويلة الأجل التي حدّدها، وربما يزيدها سوءاً.

صحيفة الأخبار اللبنانية
 

أضيف بتاريخ :2020/02/27

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد