قصة وحدث

قصة وحدث: هل تتجدد ’’انتفاضة محرم 1400هـ’’؟ (الجزء الأول)


رحمة عبدالله..

قبل أربعين عاما في مثل هذه الأيام سجل التاريخ لمواطني القطيف والأحساء في المنطقة الشرقية موقفهم الخالد الذي سطروه بدمائهم القانية وأجسادهم الممزقة وحناجرهم المدوية وقبضاتهم العالية نحو السماء وخطواتهم الراسخة فوق أرضهم فلا ترتجف أو تتراجع..

إن الحديث يدور عن انتفاضة محرم الحرام من العام 1400هجرية الموافق 1979 ميلادية، أما المكان فإنه المنطقة الشرقية.. بينما تتهيأ المنطقة كعادتها للبس السواد وارتفاع مكبرات صوت العزاء في نواحيها لإحياء ذكرى شهادة سبط رسول الله الإمام الحسين "ص" حتى جالت جيوش جرارة من الحرس الوطني السعودي مدججة بالسلاح والذخيرة الحية وتطوق المنطقة يساعده جنود مجندة من الكوماندوز الأمريكي.. كل ذلك وأكثر من أجل مواجهة شعب أعزل لا يملك إلا قوة إيمانه بقضيته واستعداده للدفاع عنها بشراسة مهما بلغت التضحيات..

وما أن أطل اليوم الأول من الشهر إلا ومنازل الأهالي قد تحولت إلى غرف عمليات، فلا تدخل بيتا إلا وترى المنشورات وعلب الأصباغ التي تستعمل في كتابة الشعارات الحائطية ..الأمر الذي كان ممنوعا من قبل النظام السعودي ..إلا أن الشعب بوعيه تجاوز ممنوعات السلطة.. ولأن الانتفاضة تزامنت مع عاشوراء الحسين منبع الثورة والتضحية فكانت الشعارات مستوحاة من تلك المدرسة العظيمة والأليمة..

فلماذا انتفض الشعب؟؟

إن الانتفاضة التي قام بها الشعب لم تكن عاطفية، بل كانت نتيجة تفاعل الجماهير المضطهدة مع عدة أسباب وعوامل داخلية كانت تختمر في النفوس إلى أن حان موعد الانفجار على شكل انتفاضة جماهيرية عارمة منها:

 الوضع السياسي..

 فالحكم السعودي لم يقم إلا بالسيف ولم يبن إلا بدماء القتلى وعلى أشلاء مليون ونصف قتيل، وقد اختصر الملك عبد العزيز مخاطبا جيشه "الإخوان" ذات مرة مذكرا إياهم بطبيعته الدموية موضحا كيفية وصوله إلى الحكم قائلا:( ولا تنسوا، إن ما من رجل منكم إلا وذبحنا أباه أو أخاه أو ابن عمه، وما ملكناكم إلا بالسيف).. وشهد شاهد من أهله.. وليس أي أهل.!

وكذلك الاستفراد الكامل والشامل بجميع مفاصل الدولة، إضافة إلى التبعية والعمالة للغرب الذي ينخر كرامة الإنسان ويفقده استقلاليته ويفرض على الشعب أوضاعا شاذة تنعدم فيها الحرية بمختلف مضامينها.

الحجر على الثقافة والفكر..

أحاط النظام السعودي المنطقة بسياج منيع، فارضا بذلك حصارا فكريا وثقافيا رهيبا لم يفرض على أي شعب من الشعوب في العالم. وصادر حرية الكلمة لدرجة أنه يحاكم بالإعدام على خلفيتها..

فساد اقتصادي ..

فعلى الرغم من الثروات الطالة التي تكتنزها أرض المنطقة الشرقية من معادن وخيرات زراعية علاوة على ذلك وجود النفط فهي تحوي على ربع احتياطي العالم إلا أن ذلك "النفط" كان وبالا على البلاد أكثر منه ثروة صالحة بفعل سيطرة الشركات الأجنبية عليه ومكرسا لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي على الدوام.

"الثورة الإسلامية" أنموذج..

وعلى مستوى الإقليم، كان لانتصار الشعب المسلم في إيران في ثورته المظفرة ضد نظام الشاه الفاسد عظيم الأثر على جميع الشعوب المستضعفة..أحدث الانتصار زلزالا في المنطقة كما صرح بذلك بيغن- وتحولت الرياح الإسلامية إلى عواصف تهب باتجاه منطقة الخليج ...ماجعل الطواغيت الأقزام يعيشون حالة الذعر ..في المقابل طرح الشعب رؤيته فاتحا بابا للتفكر .. فالإسلام الذي اسقط الشاه (المسلم!!) في إيران أليس بإمكانه أن يسقط الإسلام الأمريكي في الجزيرة العربية؟؟..

في وقت قصير، نجحت الثورة الإسلامية في صهر التيارات المختلفة بالمجتمعات الإسلامية وتوحيدها، وإذابة عوالق اختلافها من خلال بث الوعي، عبر الخطابات التي كان يلقيها الإمام الخميني "رض" حول أهمية الوحدة الإسلامية، ورص الصفوف، ومواجهة الاستبداد والاستكبار العالمي.  

الشرارة...

وفجأة يصل إلى أسماع الشعب خبر وصول مجموعات (الكوماندوس الأمريكي) إلى قاعدة الظهران لتكون قريبة من إيران عند الحاجة إليها في التدخل العسكري، ويتم التأكد من صحة الخبر الذي كان بمثابة الصاعق الذي أشعل الفتيل الثورة.. لم يرض الشعب أن تتحول مهد الإسلام إلى محطة للتآمر على الثورة الإسلامية في العالم..

وبينما كانت الحكومة السعودية تتجهز للقضاء الكامل وبوحشية على كل من يعارض الوجود الأمريكي ويؤيد الثورة ليكون (عبرة لمن اعتبر)!! بدأ الشعب يتجهز استعدادا للمواجهة..

وبحساب السلطة ظنت أنها ستكسر إرادة الشعب عندما تسلط عليه الحرس الوطني وكان آنذاك بقيادة عبدالله بن عبد العزيز الملك الراحل .. فأعدت عدتها..وبدأت شاحنات الجنود التي تحمل الحرس تتوجه إلى المنطقة الشرقية وفتحت مخازن الذخيرة على مصراعيها.. كل ذلك من أجل مواجهة أفراد لا يملكون أدنى مستوى من السلاح غير سلاح الكلمة والشعارات والمواقف الرنانة..

وبدأت مجموعات الشباب تنظم نفسها وتنادى للتصدي ومقاومة السلطة بالرغم من كثرة المثبطين، لكن الجماهير استجابت لنداءات "الطلائع الرسالية" وأخذت تستعد للمظاهرات التي تحولت بعد فترة إلى اشتباكات واسعة مع جلاوزة النظام..وشرابي الدماء..

لم يكن النظام السعودي الجاثم على رقاب الشعب يتوقع تحركا منه وتصور أن مايقارب الثمانين عاما من الترهيب والحكم البوليسي استطاعت سحق شخصيته وإذابتها في شخصية السلطة..

لذلك كانت ردة فعل الأمير أحمد بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية على المخابرة العاجلة التي وردته من قيادة الحرس الوطني في الأحساء تخبره إن هذه المنطقة خرجت عن بكرة أبيها متظاهرة وتستشيره حول حجم الرد المطلوب.. حيث قال: (مايصير !! أنت مجنون تحكي هالكلام!! قندهار قد تتحرك ولكن الأحساء لايمكن!!)

وعلى صعيد المناطق، كانت مجالس المحاضرات الدينية في الحسينيات منسجمة مع الروح الثورية للشعب وقد كان لوجود مجموعة من الخطباء والمحاضرين الشباب الثوريين الأثر الأكبر في شحذ هذه الروح، كان مجرد الخروج في الشارع على شكل جماعات ممنوع في عرف النظام ولكن الشعب تحدى هذا المنع وكسر الحاجز منذ الليلة الأولى.

ليلة السادس .. "أول التحام مباشر"

 كل مافي جو القطيف الباسلة يوحي بأن شيئا ما سيحدث ..فشعور الجماهير ارتفع مؤشره والحرارة الثورية في مجالس المحاضرات كانت من السخونة بحيث لو قذف عود ثقابا لاشتعل الجو لهبا..

وبعد مجلس العزاء خرجت الجماهير بالآلاف في مظاهرة صاخبة تردد شعاراتها الثورية الإسلامية كاشفة قناع الزيف عن وجه السلطة السعودية القبيح..هذه الشعارات التي وجد الشعب فيها نفسه بعد سنوات طويلة من محاولات سحقه على يد النظام الجائر..

ثم سارت في الشوارع الرئيسية داخل القلعة وواصلت مسيرها كلما مرت بمجموعة من الناس التحقوا بها وشاع خبرها بسرعة البرق في صفوف الجماهير التي كانت متعطشة لإبداء موقفها من النظام  ..ووصلت التظاهرة حي المسعودية قرب ثانوية القطيف.. أنه أول التحام مباشر بين قوات القمع السعودية المزودة بالرشاشات والهراوات وقنابل الغاز...بالإضافة إلى السلاح الأبيض وبين جماهير الشعب العزلاء وقد التحمت هذه المظاهرة بمسيرة أخرى لا تقل عنها ثورية في حي الدبابية.

كما خرجت في نفس الليلة مسيرة في العوامية انطلقت من مسجد الجميمة ودارت الجماهير حول القرية وهم يرددون الشعارات الثورية لكن السلطة لم تتدخل فكانت تخشى مواجهة دموية مع أهالي البلدة الذين عرفوا بشدة معاداتهم للسلطة.. وكذلك خرجت مظاهرات من مدينة سيهات، وفي صفوى قدرت الجماهير بالآلاف..

المصدر: كتاب انتفاضة المنطقة الشرقية للباحث والكاتب السياسي د.حمزة الحسن

أضيف بتاريخ :2018/09/16