قصة وحدث

قصة وحدث: هل تتجدد ’’انتفاضة محرم 1400هـ’’؟ (الجزء الثاني)


رحمة عبدالله..

لم يكن خروج الجماهير عشوائياً بلا هدفاً كي يتراجعوا خوفا من تحذيرات من هنا أو هناك مهما كانت واقعية بميزان القوة العسكرية فقد أبصرت الجماهير بعين واعية بأن "الله أكبر" شعارها الأقوى والأقدر على مواجهة أي فرعون وطاغية..

ليلة السابع..

في القطيف، حاول المحسوبون على السلطة منع الجماهير من التظاهرات إلا أن الرد كان حاسما لا تراجع إلى الوراء فخرجت مظاهرة ضخمة وسارت في شوارع القلعة حتى وصلت إلى قرية التوبي، وهنا كانت بداية النهاية لهذه المظاهرة وذلك لصغر حجم التوبي وتعب المتظاهرين بعد ساعات من المشي الطويل والهتافات المدوية التي بحت الأصوات..

وانتظرت القوات هذه اللحظة حيث يتعب المتظاهرون ويبدأون بالتفرق لتشن ضربتها! وفعلا ما أن وصلت المظاهرة إلى هذه القرية حتى كانت سيارات السلطة من قوات الجيش والطوارئ.. فهجموا كمجموعات على أطراف المظاهرة مستخدمين قنابل الغاز المسيلة للدموع والهراوات والعصي الكهربائية فماكان من الجماهير إلا أن تدافع عن نفسها بالحجارة وسعف النخيل والقبضات واستمرت الاشتباكات مدة نصف ساعة حيث جرح عدد كبير من الجانبين. ولأن منافذ القرية كانت محاصرة بالجنود لم يستطع المتظاهرون الرجوع إلى منازلهم فبات قسم منهم في النخيل إلى ساعات الفجر الأولى..

على قلب واحد وروح واحدة..

والأمر المشرف الذي يرفع الرأس هو ذلك التعاون الذي أبداه أهالي القرية الفقراء مع المتظاهرين حيث أخفوهم في بيوتهم بعيدا عن أعين السلطة بالرغم من أن ذلك كان يعرضهم للخطر ومداهمات الجنود..

هذه الروح الإنسانية العالية استمرت طوال أيام الاحتجاجات حيث فتح الأهالي بيوتهم للهاربين من شبح الموت وجلاوزة القمع فكانت مشاهد الشباب وهم يركضون مسرعين يحملون الجرحى إلى منازل الأهالي والحسينيات التي تحولت لمشافي ميدانية، هذه المشاهد تتكرر..وكان المسعفون والمعالجون يبذل قصارى جهدهم لمعالجة الجرحى والمصابين بحماسة و ثورية لا تقل عن حماسة الشباب المشاركين في المظاهرات.

ولم تختلف الأجواء في مدينة سيهات عن القطيف في تلك الليلة "7 محرم"، حدثت مواجهات عنيفة مع الجنود وحينما رأى الجنود بسالة المشاركين واستعدادهم للمواجهة وعدم الخوف زادت قوات السلطة تعزيزاتها على مداخل الشوارع الرئيسية واستشهد خلالها المناضل "حسن القلاف".. كان طليعة الشهداء الذي سطروا بدمائهم فصول انتفاضة المحرم العظيمة.

في نفس الوقت بدأت طائرتا هليكوبتر تحلقان على ارتفاع منخفض فوق رؤوس المتظاهرين كانت أحدهما تضغط هواءً يأتي بقوة من فوق فيثير الغبار والأتربة في أعين وأفواه المتظاهرين ويمنعهم من الرؤية  فضلا عن الهتاف..بينما كانت الأخرى تسلط أنوارا قوية لتصوير المتظاهرين تسهيلا لاعتقالهم فيما بعد..

إلى هنا كانت المنطقة مشبعة برائحة الغاز والضرب بالهراوات قد بلغ مداه ...فتفرقت المتظاهرون على أمل اللقاء في الليلة القادمة..

وفي صفوى المدينة التي تقع على مقربة من مصافي البترول في رأس تنورة ولكن لاينالها منها إلا الضجيج المرهق والدخان والغازات التي تفسد جو البلدة .. وعلى إثر مظاهرة الليلة الماضية نزلت قوات الحكومة بشكل لم يسبق له نظير الأمر الذي زاد نقمة الجماهير وقدر عدد المتظاهرين ب 7 آلاف متظاهر ثلثهم من النساء الرساليات اللاتي استجبن للنداء وكانت المسيرة منظمة في تحركها من قبل مجموعة من الرساليين..استطاعوا أن يتجنبوا ضربة الحكومة.. وحينها انتظرت خفافيش الظلام عودة المشاركين على شكل أفراد وجماعات صغيرة لمنازلهم فنقضت عليهم وعلى كل من تراه سواء شارك أم لا، دون تفرقة.. فاعتقلت 80 رجلا ومايقارب 30 امرأة وفتاة!.

ليلة الثامن ..

جلبت السلطة قوات إضافة معززة برشاشات ثقيلة وضعتها على مبنى "تقوية الإذاعة" الذي يقع على بعد عدة كيلو مترات من مدينة سيهات..وكان جلاوزة النظام يطلقون الرصاص بهستيريا ووحشية فلم يفرقوا بين المشاركين في المظاهرة وغيرهم..

وبعدما انتهت الاشتباكات.. مرت سيارة خاصة تحمل شبابا من الأحساء قدموا للمشاركة حتى أصلاهم الجنود بوابل من رشاشاتهم الأوتوماتيكية فتساقطوا بين شهيد وجريح ولم يرو الجلازوة ظمأهم إلى القتل عند هذا الحد.. بل ذهب أحد المسؤوليين العسكريين إلى إحدى الحسينيات وطلب منهم التفرق وما أن خرجوا حتى هاجمهم الجنود ووقعوا فيهم ضربا واعتقالا ..

مطالبات مشروعة ..

في هذا الوقت تبلور حقيقة الانتفاضة الجماهيرية من حيث ارتفاع مستوى الوعي بالأهداف الذي تجسد عمليا في شعاراتها أو من حيث أسلوب المواجهة..إضافة إلى تحديد مطالبهم المشروعة .. أبرزها.. إطلاق سراح جميع المعتقلين خلال الأحداث والتعويض على أسر الشهداء والمصابين ومحاكمة رجال الشرطة.. الاعتراف بالحرية الدينية على كافة الأصعدة، أن توقف الحكومة تعاونها مع الاستكبار المتمثل بأمريكا ضد الثورة الإسلامية..وأن تضع حدا للإهمال والتلاعب بمصالح المواطنين تبدأ بمعالجة الأزمات من أزمة السكن والخدمات وانتهاء بمشاكل التعليم..

ليلة التاسع من محرم.. "جنازة ممزقة أربا إربا"!!

في هذه الليلة الحزينة سقط المناضل "سعيد عيسى مدن" مخضبا بدمه.. شهيدا برصاص السلطة حيث كان من صفوى قدم للقطيف للمشاركة وما أن وصل خبر شهادته حتى خرجت صفوى والمناطق المحيطة حتى تاروت وسنابس عن بكرة أبيها لتشييع الشهيد رجالا ونساءً من كل الأعمار والألم يخنق أصواتهم الباكية وقد بلغ عددهم مايقارب 24 ألف مواطن في حالة ألم والهياج..

  بينما بدأ الميكرفون من داخل المقبرة يبث خطابات حماسية عن الشهادة في سبيل الله وازدادت حدة الحماس في الخطابات وتحولت إلى مهاجمة السلطة .. أخذ الصوت المرتعش بالبكاء يعلو في الأرجاء .. لماذا يقتلوننا؟ لماذا يمنعوننا من ممارسة شعائر ديننا؟ إلى متى نحن ساكتون إلى متى نحن خائفون؟ "فلنمت في سبيل الحق أو لنخضب على حقوقنا بدمائنا".. إلا أن هذا الصوت لم يكن ليصل إلى تلك القلوب المنغلقة كالحجارة، بل هي أشد قسوة..

ومحاطة بورود حمراء جاء أحد أقارب الشهيد حاملا صورة كبيرة للشهيد وطاف بها على الحاضرين فأثار موجة من البكاء الساخط .... فأصبحت نفوس الجماهير تواقة للشهادة وتشتاقها..

أربعة وعشرون ألفا تحركت كالسيل يقودها الشهيد إلى الشارع الرئيسي في البلدة واتجهت نحو مركز الشرطة.. أمر أحد ضباط السلطة الجماهير التي صممت على الانتقام لدم شهيدها بالتراجع.. فردت عليه بوابل من الحجارة والزجاجات الفارغة..

فأعطيت الإشارة لمجموعة من جنود الحرس كانوا مستعدين خلف مدفع رشاش مثبت على سيارة "وانيت" فأخذوا يطلقون صليات متواصلة من مدفعهم على جنازة الشهيد سعيد مدن وعلى ثوبه وعلى اللافتة المنصبة على الجنازة والتي تحمل الآية القرآنية "ولا تحسبن الذين قتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"!!..

وفي تلك الأثناء بينما كان أحد الشباب يحاول انقاد جريج أطلق عليه الحرس عدة صليات من مدفعهم الرشاش حولت جسده إلى مصفاة غارقة في بحر من الدماء من كثرة الرصاص الذي اخترق جسده الطاهر.. إلى هنا فقد وصل عدد الشهداء الذين سقطوا بالرصاص الأمريكي على يد جزارين النظام السعودي إلى 7 شهداء ..ولم يتوقفوا عن هذا الحد من سفك الدماء والفتك حيث بلغ حصيلة الجرحى إلى  37 جريحا بينهم 3 نساء..

ولم تسلم حتى جنازة الشهيد "مدن" التي كان كالشبح بالنسبة لهم فقد مزقوا جسده الطاهر بـ 20 رصاصة وانتهت المجزرة التي كانت لها صدى واسع في بقية المناطق ووصل خبرها إلى العوامية وقد خرجت عن بكرة أبيها في مظاهرة تهتف بسقوط الحكم السعودي.. وسقوط كارتر..

عاشر القطيف بلا عزاء!!

ما أن جاء عصر يوم التاسع من محرم حتى ليلة العاشر بكاملها إلا والقطيف غارقة في ظلام دامس زادته أزيز الرصاص الذي لم يتوقف رهبة ووحشة.. فلم تفتح الحسينيات والمجالس في تلك الليلة العظيمة وهذا يحث لأول مرة في تاريخ المنطقة فمن يخرج للشارع ولو لبضع خطوات فأنه يعرض نفسه للرصاص القاتل..

أما الأحساء لليلة العاشر ما أن انتشرت أخبار القطيف والشهداء والجرحى حتى خرجت في مواكب العزاء فكانت التظاهر منقطع النظير ولم تكن السلطة تتوقع أن يحدث شيء من هذا القبيل في الأحساء  وهذا ماعبر عنه وزير الداخلية أحمد بن عبد العزيز!

وقدمت الانتفاضة المجيدة نحو 25 شهيدا وأكثر من مائة جريحا واعتقلت السلطة مايقرب ألف ومائتين شخص...

مابعد العاشر كل المناطق..

على إثر تلك الأحداث اتبعت السلطة سياسة العصا والجزرة لامتصاص آخر روافد النقمة التي في القلوب ولكن هيهات فالشعب لم ولن ينسى دماء الشهداء التي سالت على تراب صفوى وسيهات والقطيف وتاروت والبحاري ولن ينسى الدماء الطاهرة التي روت شوارع الهفوف والمبرز..

وفي صورة موحدة اشترك أعداد كبيرة من جماهير الأحساء السنة والشيعة.. الجميع كان يهتف "لاشيعية ولاسنية ثورة ثورة إسلامية" وذلك تنديدا على ما قامت به السلطات من قصف المسجد الحرام في مكة المكرمة..

دور الاستكبار الأمريكي..

كان الدور الأمريكي حاضرا منذ اللحظة الأولى..فكانت الدفعة الأولى مع بداية شهر محرم الحرام حيث وصل لواء من الكوماندوز الأمريكي بصفة فنيين شركة أرامكو وقد أقلتهم عدة طائرات عسكرية من طراز "هيركو ليز/ سي 130".

وفي يوم 12 محرم وصلت إلى القاعدة الجوية لسلاح الجو الأمريكي بالظهران 10 طائرات جديدة من نوع "إف 15" كما أن الأمريكيين العاملين في شركة أرامكو منعوا من مغادرة الظهران واتخذت احتياطات أمنية مشددة على منشآت أرامكو والقنصلية الأمريكية بالظهران.

وفي حديث لمستشار الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي في كتابه "السعودية في الثمانينات"  حول ماجرى أقر بأن "الحرس الوطني لم يكن متزنا في استخدامه للقوة" أثناء قمع الانتفاضة.  

والأمس كما اليوم لا يكتفي النظام السعودي بممارسة القتل والقمع بيده الجائرة المسلطة على رقاب العباد فحسب وإنما كان على الدوام يجد من يعينه وهو الذي أثبت به أعمدة مملكة بنيت على أنهر من الدماء القانية..

وماقد أنهته السلطات في ذلك العام المجيد بقوة الرصاص وإراقة الدماء الطاهرة..هاهو التاريخ يعيد نفسه ليثبت إن قوة السلاح والسيف لا تخمد أصوات الحق والمطالبة بالعدالة فكلما زادت السلطة في شراستها وتعنتها زاد الناس في وعيهم وإصرارهم بنيل استحقاقاتهم مهما كانت التضحيات وإن تستروا بستار الليل البهيم فالصبح سيشرق يوما سنة الله في أرضه..

ومازالت دوافع وأسباب "انتفاضة محرم 1400 هـ " قائمة ومتصاعدة!.

المصدر: كتاب انتفاضة المنطقة الشرقية للباحث والكاتب السياسي د.حمزة الحسن

أضيف بتاريخ :2018/09/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد