آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
قاسم حسين
عن الكاتب :
كاتب بحريني

ما بعد اغتيال السفير الروسي


قاسم حسين ..

كان اغتيال السفير الروسي اندريه كارلوف في تركيا مفاجئاً من حيث الشكل، لكنه لم يكن مفاجئاً من حيث المضمون.

لم يكن مفاجئاً أن يحدث الاغتيال في تركيا، فهي الدولة التي دخل من حدودها تسعون في المئة من المقاتلين إلى جارتها سورية، وهي الدولة التي ظلت تصرّ، حتى قبل أسبوعين، على ضرورة إسقاط الرئيس بشار الأسد بعد أن تخلى عن ذلك الهدف كل الدول التي عُرفت يوماً بـ «أصدقاء سورية»، وهي الدولة التي يحكمها اتجاه إسلامي إخواني شعبي، كان من أكبر الداعين إلى إسقاطه، كما أنها الدولة التي تضم نسبةً كبيرةً من المتعاطفين مع المعارضة السورية المعتدلة وغير المعتدلة. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يخرج من بين هذا التيار العريض شابٌّ متحمسٌ في الثانية والعشرين، يعمل في أجهزة الأمن التركية، لينفّذ عملية الاغتيال.

ثم إنَّ تركيا أردوغان، تمرُّ بمرحلة انتقالية مضطربة، وتشهد سياستها انعطافةً حادةً، باتجاه التقارب مع المحور الذي ظلت تحتك به منذ خمس سنوات، حتى وصلت في وقت ما إلى حافة المواجهة المباشرة، بعد إسقاط الطائرة الروسية.

هذه الانعطافة الحادة في سياستها، بدأت تتبلور بعد الانقلاب الفاشل ضدَّ رجب طيب أردوغان قبل ستة أشهر، حيث تبيّن أن هوى الأميركان كان مع الانقلابيين، بينما كان الروس والإيرانيون أول من اتصلوا بالمسئولين الأتراك وشدّوا من أزرهم، وكانوا أول المهنّئين لأردوغان بفشل الانقلاب؛ وصدرت تقارير غربية تفيد بأن الجانبين سرّبا معلوماتٍ إلى الجانب التركي أفادته في إحباط الانقلاب.

السياسة التركية كانت متشددةً جدّاً في الموضوع السوري، وفي بلدٍ يشهد اصطفافاً قاعديّاً وراء الحزب الحاكم، أثبتته الانتخابات الأخيرة، كان طبيعيّاً أن يتكوّن تيار شعبي يتبنّى طروحاته، التي ظلت حتى قبل شهر واحد، تصرّ على رحيل الأسد. ومن هنا حين يحدث مثل هذا التحول الانقلابي الكبير، بالتركيز على محاربة أعداء آخرين، كحزب العمال الكردستاني، وجماعة الداعية فتح الله غولن، من الطبيعي أن يوجد لها معارضون من داخل التيار، ممن تشرّبوا بالهدف الأول (إسقاط الأسد)، ويرون في السياسة الجديدة خيانةً. وهي نبرةٌ أصبحت ظاهرةً بين المعارضين السوريين، وخصوصاً بعد ما جرى في حلب من هزيمةٍ، اعتبروها نتيجة تخلي أردوغان عنهم في منتصف الطريق.

المعارضة السورية أخطأت حين راهنت على تركيا، وقبلها على الولايات المتحدة، فالدول الكبرى أو الإقليمية ليست جمعيات خيرية، ولا تدافع عن الحريات وحقوق الإنسان إلا بمقدار ما يخدم مصالحها. فالأميركيون لم يحتلوا العراق رأفةً بالشعب العراقي، وإنقاذاً له من بطش نظام صدام حسين ومقابره الجماعية. وتركيا لم تكن لتزج بقواتها في العراق وسورية من أجل عيون السنّة العراقيين والسوريين. هذه الحقيقة البديهية لم تبدأ بإدراكها المعارضة السورية إلا في الأسابيع الأخيرة، حين أوشكت «لعبة الأمم» على أن تقترب من فصول نهايتها.

اغتيال السفير الروسي في تركيا لن يمرَّ كحدثٍ عابر، وإنما سيترك عدداً من التداعيات، أولها زيادة التقارب التركي مع روسيا وإيران. ومن الساعة الأولى كان واضحاً إصرار الأطراف الثلاثة على المضي في طريق التوافق المشترك تجاه الأزمة السورية. وكانت أول تصريحات رسمية روسية تركية تؤكّد عقد اللقاء الثلاثي في موسكو صباح يوم الاغتيال، في رسالة قوية لكل من أيّد الاغتيال.

عملية الاغتيال ستكون لها تداعيات أخرى، في مقدمتها التأثير على الاقتصاد التركي، وحركة السياحة التي تراجعت كثيراً خلال العام الجاري. وإلى جانب إضعاف الثقة بهذين الجانبين، هناك الجانب الأمني، الذي سيشهد خضّةً عنيفةً أخرى، بعدما جرى من تصفياتٍ لقيادات الجيش وعناصر القوى الأمنية بُعيد الانقلاب، فبعد كل ما قيل وحدث من ملاحقات واعتقالات لأنصار غولن، يخرج «حارس أمن» من داخل المنظومة الأمنيَّة لينفّذ عملية الاغتيال. ومن سوء حظ تركيا - الدولة، أنه تم توثيقها لحظةً بلحظةٍ، وبالصوت والصورة، لتبقى طويلاً في ذاكرة ملايين المشاهدين عبر العالم، لتطرح تساؤلاً عريضاً بشأن ضمان الأمن حتى لأردوغان نفسه.

إنها حادثةٌ ليست عابرة، فتركيا يتوقع أن تزداد اقتراباً وتفاهماً مع المحور الذي كانت تقارعه لأكثر من خمس سنوات، وستزداد اضطراباً في منطقةٍ ساهمت في إشعال حرائقها؛ ولتذكر الجميع مجدّداً وللمرة السبعين، بالمقولة المأثورة: «طابخُ السمّ آكله».

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2016/12/22

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد