آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. يوسف مكي
عن الكاتب :
دكتوراه في السياسة المقارنة - جامعة دينفر كولورادو. - رئيس تحرير صحيفة الحقيقة الأسبوعية، ورئيس التجديد العربي ومشارك في مجلة المستقبل العربي أستاذ محكم بمركز دراسات الوحدة العربية. - عضو في العديد من اللجان والمؤتمرات. - صدر له مؤلفات منها ولا يزال البعض تحت الطبع.

الجغرافيا المغيبة في قراءة أزمة الدولة العربية


يوسف مكي ..

حين امتشق الشعب العربي سلاحه، في معارك الاستقلال من الاستعمار التقليدي، كان النضال القومي، رغم شعاراته المعلنة والصاخبة، قد تم وفقا للخرائط التي رسمها المستعمر

حفلت الأيام الأخيرة بحوادث، على الساحتين الإقليمية والدولية، لا يمكن فهمها، من غير وضعها في سياق القراءة الجيوسياسية. آخر الأحداث هي الأزمة السياسية المشتعلة بين تركيا وهولندا، والتي أدت إلى رفض الحكومة الهولندية السماح بهبوط طائرة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في أراضيها، لأسباب قيل إنها ترتبط بدواعي «الأمن والنظام العام». وقد جاء هذا الرفض عقب تصريحات للوزير التركي هدد فيها بفرض عقوبات سياسية واقتصادية على هولندا، إذا لم تسمح سلطات أمستردام بالمشاركة في لقاء انتخابي مع الجالية التركية بأمستردام. وفي بيان للحكومة الهولندية جرت الإشارة إلى أن مجلس الوزراء سحب حقوق هبوط طائرة وزير خارجية تركيا لدواعي الأمن والنظام العام. وأكدت الحكومة الهولندية أن تهديد تركيا بعقوبات جعل التوصل إلى حلول مع أنقرة أمرا مستحيلا، وفق وسائل إعلام هولندية.

وبالمثل منعت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعائلية التركية فاطمة بتول سايان كايا، من الدخول برا إلى هولندا، اتساقا مع قرار البرلمان الهولندي بمنع أي زيارات لسياسيين أتراك. وهذا الحظر هو الأحدث ضمن سلسلة فرضتها عدة دول أوروبية على زيارات مسؤولين أتراك للمشاركة في تجمعات لمهاجرين أتراك مؤيدين للتعديلات الدستورية في بلادهم.

تأتي هذه الأحداث، ضمن سياقات إستراتيجية أخرى، عبر عنها موقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بمساندة الميليشيات الكردية، على الأراضي السورية، ومنحها أسلحة نوعية للدفاع عن نفسها، في مواجهة الهجمات التركية. وذلك لم يكن في حسبان إدارة الرئيس إردوغان، الذي كان ينتظر من الإدارة الأميركية الجديدة تغيرا جوهريا في سياستها تجاه الأزمة السورية، والقضية الكردية، يكون نقيضا لسياسات إدارة الرئيس باراك أوباما.

وليس بالإمكان فهم طبيعية هذه الأزمة إلا بوضعها في سياق جدل الصراع بين التاريخ والجغرافيا. وهو صراع تكشف منذ قيام تركيا الكمالية، التي عملت ما بوسعها على أن تكون تركيا امتدادا للعالم الأوروبي. لكن ذلك ووجه ولا يزال بمقاومة ضارية من قبل الغرب، التي رفضت كل التنازلات التي قدمت من قبل العلمانيين الأتراك للالتحاق بالغرب.

جرى قبول تركيا، في الأحلاف التي تشكلت بالمنطقة، كحلف بغداد، وحلف السنتو المعاهدة المركزية، كما جرى ربطها بحلف الناتو، لكن ذلك لم يعني مطلقا اعتبارها امتدادا للقارة الأوروبية، رغم أن جزءا صغيرا منها هو امتداد لتلك القارة. رفض انضمامها بالسوق الأوروبية المشتركة وبالاتحاد الأوروبي.

إدارة الرئيس بوتين كانت أكثر وعيا بحقائق الجغرافيا، حين طرحت رؤيتها الأوراسية، والتي تهدف إلى خلق محور أوروبي آسيوي منافس للولايات المتحدة، وللغرب عموما، تأمل أن تكون الصين وروسيا والهند وتركيا وإيران والجمهوريات السوفييتية السابقة أعضاء أساسية في هذا الاتحاد الأوراسي.

هذه المقدمة تقودنا إلى الحديث عن علاقة السياسة بالجغرافيا، وإسقاطات ذلك على الأزمة العربية المعاصرة، والتي استمرت منذ النصف الثاني منذ منتصف القرن التاسع عشر، منذ حركة اليقظة العربية، التي عملت على أن يكون للعرب موقع في صناعة التاريخ.

في الحديث عن علاقة الجغرافيا بالأزمة العربية تواجهنا عدة مشاكل، أهمها استحالة الخروج بقانون عام يمكن تطبيقه على الواقع العربي بأسره، رغم التسليم بانتماء العرب إلى أمة واحدة تجمعها اللغة والتاريخ والجغرافيا. لكن هذه التقاطعات لا تنفي وجود عناصر إعاقة لنشوء الدولة العصرية، بنسب متفاوتة بين الأقطار العربية.

في العصر الحديث، رأينا مقص المحتل يمارس سطوته في تمزيق المشرق العربي. كما هو الحال مع فرض اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور على بلاد الشام، في حين تستمر وحدة مصر السودان، إلى بداية الخمسينات من القرن المنصرم. وبالمثل تحتفظ الجزائر بوحدتها، بينما يجري تقسيم المغرب إلى عدة دول، وتحتل إسبانيا بعضا من الأراضي المغربية. أما ليبيا، فقد جرى توحيد أقاليمها الثلاثة برقة وطرابلس وفزان، كما بقيت الجزيرة العربية في غالبيتها موحدة، باستثناء ما أطلق عليه البريطانيون بالساحل المتصالح واليمن.

ما نريد التأكيد عليه، أن ما حكم التكوين السياسي لحدود الدولة العربية المعاصرة، لم يكن التاريخ أو الجغرافيا الطبيعية للبلدان العربية، ولكنه إرادة صناع القرار الكبار. وإن تم ذلك في بعض الأحيان بصيغة التوحيد القسري، وفي أحيان أخرى، بصيغة التفتيت، بالضد من إرادة ورغبات السكان الأصليين. وقد تم ذلك في الحالتين، وفقا لمصالح وإستراتيجيات الدول الكبرى.

ولكن هذا الواقع بات أمرا معترفا به، ولم يعد هناك من سبيل إلى تخطيه، إلا بتغيير معطياته، وخلق ظروف أخرى مغايرة، تُمكّن من إعادة تشكيل الخارطة السياسية العربية، على ضوء حقائق التاريخ والجغرافيا. لكن ذلك ظل في خانة التمنيات.

فحين امتشق الشعب العربي سلاحه، في معارك الاستقلال من الاستعمار التقليدي، كان النضال القومي، رغم شعاراته المعلنة والصاخبة، قد تم وفقا للخرائط التي رسمها المستعمر. ولم يأخذ مكانه في حقبة واحدة، ووفق إستراتيجية كفاحية موحدة. وحين تم استقلال معظم الأقطار العربية، فإن ذلك قد حدث وفق سياقات الخرائط التي رسمها صناع القرار الكبار، ولم يكن وفق السياقات الموضوعية، أو الأخذ بالاعتبار، التطلعات والأماني المشروعة للشعب العربي، في قيام الأمة الواحدة.

ولأن التشكيل الجغرافي كان مشوها منذ البداية، وكانت ولادة الدولة العربية المستقلة ولادة قيصرية، فإن النتائج لم يكن لها أن تكون طبيعية. فهناك اندماج في حالات لم تتحقق فيها الوحدة الوطنية، ولم تفتح القنوات لنشوء دولة عصرية. وهناك مقص تفتيت، لمناطق لا تؤهلها الظروف التاريخية، ولا قدراتها الاقتصادية والبشرية لتشكيل دولة عصرية.

وحين حدث ما بات معروفا بالربيع العربي، استيقظت النزعات الانفصالية الكامنة، طائفية ومناطقية وقبيلة، لتعيد الاعتبار مجددا للعناصر التي من شأنها التأهيل لقيام دولة مدنية عصرية، بعد أن تمت صناعة الحدود، بقوة الأمر الواقع، وفي تجاهل مرير لحقائق الجغرافيا والتاريخ.

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2017/03/15