آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
صالح زياد
عن الكاتب :
أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب، جامعة الملك سعود .

ثقافة التكاذب


صالح زياد  

ثقافة التكاذب والمظاهر الباذخة، هي ثقافة مزيَّفة لأنها تصطنع التعجيب والإبهار رغبة في نيل المديح، وبذلك تغتصب القيم المثالية، وتشوِّهها، وتجعلها قيماً شكلية فارغة

يثير كتاب «البخلاء» للجاحظ المتوفَّى سنة 255 للهجرة، سؤالا جدِّيا أمام محتواه الضاحك، وجهده في تأليف حكايات فَكِهة وساخرة ممن يوصفون بالبخل وعنهم، وهو سؤال القيمة التي يصنعها الكتاب للبخل، ومن ثم الوجهة النقدية التي يمارسها - من منظور تلك القيمة - على الثقافة والأخلاق والمفاهيم.

فالكتاب يحوي جهداً في تأليف مادته وصياغة محتواه، وهذا الجهد وحده مؤشِّر على أن له مضموناً جدِّياً متمازجاً مع هزله، ومتوسِّلاً به. وإلى ذلك فإن الكتاب يتضمن ممارسة حجاجية تترافع عن البخل وتبرر مسلك البخلاء، بمختلف الحجج، ويحوي بناء للسياق المرجعي لحواراته وحكاياته وموصوفاته من زاوية تضفي على البخيل قوة وتحدياً بأكثر من معنى.

ولقد تنبه محقِّقا الكتاب: أحمد العوامري وعلي الجارم، في مقدمتهما له (مؤرخة بعام 1937) إلى فرادة مسلك الجاحظ؛ لأنه «سبق الناس جميعا، فوضع في هذا الكتاب أصول (علم البخل) وفلسفته».

وهو سَبْق يقترن لديهما بمعنى باطني وجدِّي في وصفهما له بأنه «ليس بالهين اللين، بل هو كتاب بعيد الغور، عميق المذهب». وذلك في الوجهة التي يؤكدان فيها على دور الجاحظ في تأليفه، فليس يعني قول الجاحظ «حدَّثنا» أو «أخبرَنا» أنه يسوق كلام غيره، فهما لا يريان في الكتاب -من وجهتهما- لغير الجاحظ قولا ولا غير أسلوبه أسلوباً.

وقد أدى بهما ذلك إلى التساؤل عن موقع الجاحظ من كتابه «هل كان الجاحظ بخيلاً؟» وهذا سؤال محوري، في الوجهة التي نقصدها هنا، فهما اهتديا إلى الإيجاب في الإجابة على سؤالهما؛ مستدلين بأن الجاحظ «في غضون ذلك كله يلقن (البخلاء) الحجج على حسن الاتصاف بادِّخار المال»، وأن «الولوع بالشيء يحبِّب إلى النفس التحدث عنه والإفاضة فيه».

ولم يكتفيا بهذا الاستنتاج على إيجاب بخل الجاحظ، بل استعانا -أيضا- بخبر في كتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، يقرر أن أبا عثمان كان بخيلا، مشهورا بالبخل في عصره. وأظن أن المسألة لا تتعلق بالبخل، بل بما هو في مقابل البخل الذي يَستخدِم الكتاب البخل في نقده، وتسفيهه والتلاعب به. وهذا الذي يقابل البخل ليس «الكرم» تحديدا، بل صورة زائفة تسمَّى الكرم، يطالب بها المتطفلون والفارغون والمتبطلون، ويصعد بها المتسلطون، على أعناق العامة.

وكما غدا الكرم معنى زائفا باسم الكرم، غدا البخل معنى آخر غير ما يذمه الناس، والجاحظ يتحدث بلسان الاحتجاج للبخلاء في مستهل الكتاب، عن تسميتهم البخل «صلاحا» والشح «اقتصاداً»، وأنهم «يحامون عنه»، ويجعلون الجود «سَرَفاً»، و«يزهدون في الحَمْد، ويقل احتفالهم بالذم».
ومن المؤكد أن أحدا لن يفهم الإسراف، في وجهة المديح والثناء على من يوصف به، بل في باب الذم له ولومه وانتقاد مسلكه. ولن يفهم أحد البخل، في باب التمجيد لمن يوصف به والإشادة به، بل في باب الطعن عليه، والقدح في أخلاقه، وهجوه، وتحقيره.

أما الممدوح بين هذا وذاك فهو من يوصف بالجود والكرم والسخاء والبذل، فلا أحد يذم أحداً لأنه كريم أو سخي، والأحرى أن ينقلب الذم من هذا القبيل على صاحبه، فيغدو ذمُّه ذما لنفسه؛ من حيث دلَّل باستخدامه الذم في موضع المدح على اختلال منطق القيم لديه، واعتلاله الأخلاقي.

لكن الجود والكرم وسائر مرادفاتهما، مُغتصبَة في الذاكرة الثقافية لصالح علاقة من نوع واحد، هي تلك العلاقة التي سجلتها الأدبيات، لاسيما الشعر، في صورة ممدوح يقذف صُرَر الدراهم على مادحيه، أو يذبح لضيفانه الذبائح ويقيم لهم الولائم. فلم تمتلئ دلالة الكرم والجود، بصورة المحسن الذي يتصدق بماله، ويخص ببذله الفقراء، ويتقصد بسخائه ذوي الحاجة، أو مشروعات النفع العام، وذلك على الرغم من أن ذلك هو تحديدا منبع مديح المتصفين بقيمة الكرم، وعلة تصنيفه في فضاء القيم المثالية.

وهذا هو الموضوع الذي يجعله الجاحظ في قبالة البخل، ويصنف حكايات البخل على الطرف النقيض منه مانحاً لها من القوة والإصرار والقصدية والتدبر والاحتيال ومن الحجج والأدلة والتخييلات ما يليق بحضور ذاتي وفردي مختلف لا ينساق لما أضفته الثقافة من أعراف وقيود.

ولكن مع المجاوزة لدى الجاحظ التي لا تُبقي لدعوى الكرم حتى في سبيل الإحسان على الفقراء والبذل في وجوه الخير، أي حُجِّية أو قيمة. وذلك من أجل استنهاض وعي وجودي فردي وعقلاني يذم المسكنة والذل كما يذم التعالي والترفع.

هكذا يصبح الكتاب شهادة على استخدام الكرم ومرادفاته -في المستوى التداولي للوصف به أو التجريد منه - في معنى ثقافي اجتماعي، زائف ومنافق، ومفرغ من المسؤولية عنه، بحيث أصبح هذا المعنى تسلطاً تحكمياً على الأفراد وعلى حريتهم، ومن ثم تغييباً لوجودهم.

كأن بخلاء الجاحظ هنا يعلنون بتمسكهم بمسؤوليتهم، عن مواقفهم، وعن رغبتهم في التحرر من ربقة القيد الاجتماعي الذي يموِّه الأخلاق ويزيِّف سلطتها الثقافية، ويحيلها بشأن الكرم تحديدا من علاقة وجودية بالضمير والإرادة والعقل، إلى علاقة مظهرية غير صادقة وغير واعية.

وهؤلاء البخلاء، من المنظور ذاته، يمارسون بما يصنعونه من مواقف مضحكة للقارئ، نقداً شديداً للثقافة التي صنعت أعرافاً فاسدة ومزيَّفة أخلاقيا، وشِدَّةُ هذا النقد بقدر امتلاكه السخرية والطرافة والمفارقة، وبقدر إصرار البخلاء في الحكايات، ودلالات قصديتهم ووعيهم بما يفعلون.

ولو وقفنا، مثلا، على إحدى هذه الحكايات لتبينت لنا هذه الممارسة. وهي حكاية تنسجم مع موقف الجاحظ المعلَن في كتابه «البيان والتبيين» عن انحطاط الشعر حين فقد حريته وحس المسؤولية فيه بارتهانه إلى المديح، وتدنِّيه إلى المتاجرة التي زيفت الأخلاق وزيفت الثقافة.

وهي -بإيجاز- تحكي عن والٍ كان بفارس، أتاه شاعر، وأنشده شعرا مدحه فيه، فلما فرغ من إنشاده، أثنى الوالي عليه، وطلب من كاتبه أن يعطيه عشرة آلاف درهم، ففرح الشاعر، وهنا بدأ الوالي يتلاعب بمشاعر الشاعر.

فاتخذ من فرح الشاعر بالمال، علّة لمضاعفة الجائزة له، وطلب من الكاتب أن يجعلها «عشرين ألف درهم»، فكاد الشاعر -بعبارة الجاحظ- «يخرج من جلده»، وصار تَضَاعفُ الفرح باعثاً على مضاعفة الوالي للجائزة إلى «أربعين ألف درهم»، وهنا كاد الفرح يقتل الشاعر.

ولذلك اعتذر الشاعر بعد أن رجعت إليه نفسه، عن الجائزة، إيثارا –ربما- للسلامة، وشَكَر الوالي وانصرف. والمهم، بعد ذلك، هو استفسار الكاتب من سيده عن مضاعفته للجائزة، فإجابته دالة في صدد موضوعنا.

قال: «يا أحمق، إنما هذا رجل سرَّنا بكلام وسررناه بكلام!». ومضى إلى توضيح السرور الذي صنعه الشاعر له بالكذب عنه وعليه، ومن ثم أراد أن يسره بالطريقة نفسها أي بالكذب؛ «فيكون كذب بكذب، وقول بقول».
ثقافة التكاذب والمظاهر الباذخة، هي ثقافة مزيَّفة ومزيِّفة للوعي؛ لأنها تصطنع التعجيب والإبهار رغبة في نيل المديح، وتتمرأى بغناها وثرائها المادي للتدليل على نبلها الاجتماعي وامتيازها وسلطتها، وبذلك تغتصب القيم المثالية، وتشوِّهها، وتجعلها قيماً شكلية فارغة.

وما أكثر تجليات ثقافة التكاذب وإكراهاتها لدينا! وما أشد ما تثير الشفقة –تخصيصاً- في حياة البسطاء وعامة الناس!

 صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2017/04/16

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد