آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
صالح الدريدي
عن الكاتب :
كاتب من تونس

ماذا يجري في المملكة؟ تغيير اجتماعيّ أم مجرّد رسائل طمأنة للحلفاء؟ وهل قادرة فعلا على كسب رهان الحرّيات؟


صالح الدريدي

المملكة العربيّة السعوديّة بلد محافظ، يعتمد المرجعيّة الدينيّة في رؤيته للفرد والمجتمع. وبحكم شموليّة الدّين، فإنّه من النّادر أن يقع التطرّق إلى قضيّة الحرّيات الشخصيّة. المحافظة ليست أخلاقيّة بل قانونيّة. نعني بذلك أنّ عديد السّلوكات الواقعيّة تخترق المحظور ولكنّها تظلّ طيّ الكتمان وفي إطار المسكوت عنه من أجل ضمان التّوازن القانونيّ الذي تضطلع به عادة، في المملكة، جمعيّة “الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر”. لكنّ تواتر الأحداث التي لها علاقة بوضع المرأة السعوديّة، في الآونة الأخيرة، يجعلنا نطرح أكثر من تساؤل عمّا إذا كانت هناك نيّة تحديثيّة حقيقيّة أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى رسائل طمأنة للحلفاء الغربيّين.
***
في مركز تجاريّ بمدينة الخبر، حصل تحرّش جماعيّ جرى تناقله بسرعة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ. وصورة المشهد: صيحات ذكوريّة لفتيات عابرات بالعباءة السّوداء التي تستر المرأة من رأسها إلى قدميْها. لا نتصوّر أنّ ما حدث سابقة في المجتمع السعوديّ. من المؤكّد أنّ الأمر جرى مرارا وتكرارا، لكنْ وقع التغاضي عنه أو معالجته في إطار داخليّ بعيدا عن التّشهير.

التّشهير هو مفتاح المسألة. فالجهة المسؤولة عن نشر الفيديو كانت غايتها إنشاء حوار حول الجنسانيّة يكون اختلافيّا بالضّرورة، وهذا ما حصل. فقد تعالت الأصوات في الدّاخل السعوديّ بين مؤيّد للحرّيّة الفرديّة وداعم لمشروع الانفتاح الذي يقوده محمّد بن سلمان من وراء السّتار، وبين رافض لبوادر التّغيير في المملكة ومصرّ على الأعراف.
***
الخطوة الثّانية جرتْ في أشيقر، القرية التراثيّة. كانت أكثر جرأة وإثارة للذهنيّة السعوديّة التقليديّة. وصورتها: فتاة بتنّورة قصيرة تتمشّى بين الأزقّة القديمة وعلى رمال الصّحراء. الصّورة عاديّة جدّا لو كانت في لبنان أو تونس أو مصر أو غيرها من الشّعوب العربيّة لضفّة البحر المتوسّط. لكنْ أن تحضر فتاة سعوديّة بتلك الشّاكلة، فهذا أمر يدعو إلى الارتياب. خاصّة وأنّ “المودل” بدتْ مصطنعة في اللّقطات وخلتْ حركاتها من العفويّة، كأنّها تخضع لتوجيهات من خلف الكاميرا.

حادثة موجّهة؟

من الجائز أن يكون الأمر كذلك رغبة في مزيد تحريك سواكن المجتمع السعوديّ، وتسخين دائرة النّقاش الذي احتدّ أكثر من حادثة المركّب التجاريّ في الخبر. ضجّة كبيرة حصلتْ، والسّلطات الرسميّة اتّخذتْ إجراءات. أمرتْ بالتّحقيق في المسألة، وقد يتمّ إيقاف الفتاة وربّما تسجن مدّة قصيرة تحفّظيّا. ثمّ يقع الإفراج عنها مثلما وقع الإفراج سابقا عن ناشطات حقوقيّات. هي لعبة أدوار في السيّاق الاجتماعيّ المستحدث، والسّلطات عليها أن تناور، عليها أن تظهر في هيئة المدافع عن التّقاليد حتّى لا تبدو الحكايات مفبركة. أمّا المهمّ في كلّ هذا، فهو أنّ الخلاف قد احتدم في الدّاخل بين مناصر لحرّيّة اللّباس وبين متمسّك بالأعراف. وتلك قمّة النّجاح في السّياسات الإعلاميّة الذكيّة… في الأثناء، وزارة التربية السعوديّة تعلن السماح للفتيات بممارسة الرياضة في المدارس الحكوميّة بداية من الموسم المقبل. والإعلان لا يثير ضجّة واسعة بعد أن اختلط بحادثة الخبر و”فتنة” أشيقر..
***
من الواضح أنّ الرّياض تبعث رسائل طمأنة إلى حلفائها الغربيّين لتعلمهم أنّها على خطّ الإصلاح والانفتاح. من الواضح أيضا، أنّ الرّياض تسعى إلى صناعة الرّأي العامّ من أجل تهيئته لقبول تغيير جذريّ في بنية المجتمع السعوديّ. فتراكم مثل هذه الأحداث سيؤدّي في النهاية إلى تغلغل المفاهيم الحداثيّة للإنسان، من قبيل حقوق المرأة والحرّيات الفرديّة. لكنْ كم يلزم من الزّمن ليتبنّاها الأفراد؟ وهل التبنّي مرتبط بمجرّد فرقعة إعلاميّة متسارعة؟

حتما للإعلام دور في تعبئة الجماهير وفي استيلابها. لكنّ العامل الزمنيّ مهمّ إن كانت المملكة تروم إصلاحا حقيقيّا للهويّة الجماعيّة. وربّما عليها أن تنتبه إلى مسار الشّعوب العربيّة المتوسطّية التي تعتبر أكثر انفتاحا منها، ورغم ذلك لم تنجح تماما في تسوية قضيّة المرأة.

يبقى السّؤال: هل سنرى المملكة تقرّ مبدأ الاختلاط في الفصول المدرسيّة وتعلّم أبناءها نظريّة “داروين”؟ نظريّة قرّرت تركيا، مثلا، أن تتخلّى عنها في مناهجها التعليميّة..
***
من جهة أخرى، وفي سياق التّوظيف الإعلاميّ، يبدو جليّا أنّ المملكة ودول الحصار عموما قد استفادتْ من تدويل الأزمة الخليجيّة. ظهرت أسماء جديدة لم نكن نسمع بها سابقا، سرعان ما صارت “نجوما” إعلاميّة. منابر أوروبّا والولايات المتّحدة فُتحتْ لها، وبعض الاحتجاجات الجماهيريّة في الغرب علتْ من هنا وهناك، كما هي الحال مع زيارات الجبير أو قرقاش. هذا في صالح الديبلوماسيّة الخليجيّة ليتقبّلها الرّأي العامّ الغربيّ، يعني نوع من التّطبيع المدروس لتمرير صورة جديدة عن شبه الجزيرة العربيّة.

في السّابق كان الحضور العربيّ الدّولي مقتصرا على جنوب المتوسّط، خاصّة فلسطين بحكم قضيّتها ومصر لريادتها. ربّما غيّر الغرب قناعاته والتجأ للخليج لأسباب مستقبليّة. وربّما فهم محمود عبّاس الرّسالة. أبو مازن بدأ بزيارة الحلفاء التقليديّين لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة: فرنسا، تونس ومصر. ثمّ غادر إلى الصين في زيارة رسميّة تستغرق أربعة أيّام. وبيكين استقبلته استقبالا تاريخيّا.

للتّاريخ أيضا، الصّين كانت أوّل دولة غير عربيّة تعترف اعترافا كاملا بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة كممثّل شرعي ووحيد للشّعب الفلسطينيّ، منذ زيارة ياسر عرفات إلى بيكين في 1964. والمنظّمة افتتحتْ، آنذاك، ثاني مكتب لها في الصّين بعد مكتب الجزائر. وفي ظلّ الصّراع القائم الآن على منطقة الشّرق الأوسط ربّما يجدر التذّكير بنظريّة ماوتسي تونغ عن “المنطقة الوسيطة” وعن سياسات التطويق الأمريكيّة والأوروبيّة.

محمود عبّاس وصل إلى بيكين بعد النتائج الكارثيّة لـ”الرّبيع العربيّ” على القضيّة الفلسطينيّة. والصّين، هي أكثر من يعرف معنى “الرّبيع″، فأحداث ساحة تيانانمن (1989) ما تزال في البال. من المؤكّد أنّ مشاريع كبرى ستناقش بين الطّرفين وأهمّها لن يقع التّصريح به. لكنّها مرتبطة بإستراتيجيّة الصّين في منطقة الشّرق الأوسط وعلاقاتها بإسرائيل.

قد يكون أبو مازن محقّا في رهانه على بيكين. فالنّظام هناك لا يهتمّ بالاختلافات ولا يعنى بحقوق المرأة وقضايا الجندر والمثليّة الجنسيّة التي يتوسّل بها الغرب في مناوراته الثقافيّة. نظام بيكين، رغم بعض الانفتاح، شموليّ يشبه الديكتاتوريّات العربيّة. شبه كبير مع فارق جوهريّ يتمثّل في قدرة الصّين على التحوّل إلى قوّة اقتصاديّة هائلة يقرأ لها ألف حساب.

دول الخليج تتعاطى الآن مع الغرب، والغرب يفتح لها أبوابه لتناقش ما يجري في داخلها. أمّا الدّول العربيّة لضفّة البحر المتوسّط فيقف، معظمها، على خطّ الحياد. ربّما عليها أن تناور هي الأخرى وتسارع إلى الصّين. ففلسطين، طالما، كانت بوصلة الشّعوب العربيّة. وهذه الأخيرة عليها أن تطمئنّ، فبيكين لن تطالبها مطلقا بحقوق الإنسان ونشر الديموقراطيّة…

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2017/07/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد