آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حسام مطر
عن الكاتب :
باحث وكاتب سياسي لبناني، متخصص في العلاقات الدولية. من مواليد 1981,

الدين والوباء

منذ مئة عام تقريباً، لم تختبر البشرية وباءً أشاع هذا المستوى من الهلع حول العالم، فقد تسبّبت أوبئة سابقة بعدد أكبر من الضحايا إلّا أنها بقيت محصورة في مجتمعات طرفية محددة ولم تتحول إلى ظاهرة عالمية. لذلك، نحن غير مهيّئين نفسياً وثقافياً للتعامل مع وباء «كورونا». ومن أبرز الأسئلة التي يثيرها الوباء هو سؤال الدين، فالأوبئة بما تستجلبه من موت وآلام ومخاوف وتساؤلات عقائدية ووجودية تستدرج الدين مباشرة للتفاعل معها.

التشابك المُثير
يكشف تاريخ الأوبئة والأديان عن تشابك مثير بينهما، فكلاهما ساهم في تشكيل الآخر في أكثر من مرحلة تاريخية، وهو تفاعل أكثر تعقيداً من التعميمات التبسيطية، إذ ساهمت الأديان حيناً في احتواء الأوبئة ومآسيها وحيناً آخر حصل العكس، وأحياناً أدّت الأوبئة إلى ازدهار الإيمان و/أو المؤسّسات الدينية، وأحياناً أخرى أدت إلى تقويضهما. مع الإشارة إلى أن الصلة الأشد للأوبئة هي مع الديانة المسيحية، نظراً إلى أنّ نطاقها الجغرافي تاريخياً، ولأسباب طبيعية، أكثر عرضة لتفشّي الأوبئة بالتحديد في أوروبا.
يُعلّل ديفيد هيوز، أستاذ البيولوجيا التطورية في جامعة بينسلفانيا (عام 2011) أنه على البيولوجيين معاملة الدين بجدية، نظراً إلى أنّ بعض الديانات العالمية نشأت في وقت انتشار أمراض مُعدية، وبالتزامن مع ازدهار المدن. فبين عام 800 قبل الميلاد وعام 200 قبل الميلاد، حين ازدهرت المدن وانتشرت الأوبئة التي قضت على ثلثَي السكان، ظهرت جذور الديانات الحديثة. أهمية الدين لدى هيوز في ما يخصّ الأوبئة، تنطلق من قوة الدين في تشكيل سلوك الناس بشكل لم يكن ممكناً من دون ذلك، فالأديان تشكّل سلوك الناس بطريقة لا يمكن لنظرية التطوّر توقعه. وقد تأثرت عقائد جملة من الأديان بما إذا كان مناصروها فرّوا من الأوبئة أو بقوا والتزموا بمساعدة المرضى.
بناء عليه، ترتبط التداعيات المحتملة لانتشار وباء «كورونا» على الأديان، سواء على الصعيد الإيماني أو المؤسساتي، بجملة متغيّرات وعوامل، منها:

أولاً: الأداء العقلاني للمؤسّسات الدينية في الحدّ من الوباء
هنا يُلاحظ أنّ موقف التيارات الرئيسية الدينية حول العالم، اتّسم بنزعة إيجابية تجاه العلم بمنحه الأفضلية في قيادة مواجهة «كورونا» والتأكيد على الالتزام، ولو بشكل متأخّر أحياناً، بالإجراءات ومنها إغلاق دور العبادة أو فرض قيود شديدة عليها (تقليص المراسم والتباعد والتعقيم، لأنّ هذا الحضور في أماكن العبادة يعزّز التضامن والبعد الروحي والدعم النفسي في مواجهة المرض، ويعزّز من السعي لمساعدة الآخرين، وهذه المنافع تستحق قدراً من المخاطرة المحسوبة، تقول لايمان ستون، باحثة في مؤسّسة الدراسات الأسرية في مجلة «فورين بوليسي»، 13 آذار 2020) أو التحوّل إلى «العبادة الرقمية» عبر الإنترنت (بحسب مسح لمؤسّسة «بيو»، 57% من الأميركيين ممّن يرتادون الكنائس تحوّلوا إلى العبادة عبر التلفاز أو الإنترنت). وشمل الإغلاق المراكز الدينية الأهم في العالم، مثل الفاتيكان ومكة المكرمة ومشهد. ومع تقدّم خطر الوباء تزداد بشكل ملحوظ، انضباطية المؤسّسات الدينية، ففي العراق أعلن المرجع الديني السيد علي السيستاني تأييده منع أيّ تجمّعات تمنعها الدولة، للحدّ من انتشار فيروس «كورونا»، معتبراً أنّ من يحمل الفيروس ويتنقل مع علمه بإصابته «قاتل متعمّد».
فيما تمرّدت على هذا الاتّجاه جماعات هامشية، ومن خارج المؤسسات الدينية الرسمية (منها ما زال يرفض حملات التلقيح ويشبّهها بالهولوكوست)، كبعض من يقيمون صلوات الجمعة في الشوارع، أو حاولوا دخول المراقد الدينية بالقوة (مدينة مشهد مثلاً)، أو مكابرة بعض الكنائس الصغيرة (مثلاً أصرّ الكاهن رودني هووارد براوني من فلوريدا على تحدّي القيود، متحجّاً بأنّ كنيسته «مفتوحة لأننا نربي إحيائيين وليس مخنثين») أو تعنّت بعض جماعات الحريديم في كيان العدو الإسرائيلي (كما في مستوطنة بني براك). وكانت كنيسة يتزعّمها لي مان ـــ هي في كوريا الجنوبية ساهمت في تفشّي الوباء، كونها تفرض الحضور للعبادة أثناء المرض الذي تعتبره خطيئة. وقد زعم مان ـــ هي أنّ انتشار المرض هو «صنيعة الشيطان في سعي لإيقاف الانتشار السريع لكنيسته».
لذلك، يرى مقال في «نيويورك تايمر» أنه «في الوباء، الدين يمكن أن يكون بلسماً أو مخاطرة» (24 آذار 2020). وفي صحيفة «نيوزويك»، يستند كريغ كونسيدين (أستاذ في قسم علم الاجتماع في جامعة رايس) إلى أحاديث النبي محمد حول الطاعون (ومنها: «إِذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه»، وتأخذ مسألة شروط الخروج الجائز مداها في النقاشات الفقهية) والنظافة والتداوي، والأخذ بالأسباب لاعتبار أن النبي محمد هو أوّل من نادى بالحجر وللاستدلال على التوازن بين الإيمان والعقلانية عند النبي.

ثانياً: طبيعة الخطاب الديني تجاه الوباء
في العموم، يبدو الخطاب الديني حذراً تجاه الوباء الحالي، فهو يحضّ الناس على الأمل بنهاية قريبة له ويوصيهم بالدعاء والتضرّع، ويجدها فرصة لدعوة البشرية إلى التفكّر في علاقتها بالخالق والتواضع، بينما تبدو الخطابات التي تربط الوباء بغضب الله أو أنها انتقام من أعداء الله هامشية. فالانتشار العالمي للوباء وظهور الجميع من دون حصانة أعاق إمكانية تفسير وباء «كورونا» باعتباره عقاباً لجماعة بعينها. لكنّ الأهم أنّ الأديان اهتمّت، في العقود الأخيرة، وبشكل بارز بعد تزايد الكوارث والمآسي، بتطوير مقارباتها الفلسفية لمفهوم الشرور لاستيعاب استياء المؤمنين واضطرابهم وضبط الشكوك الناتجة عن وقوعها. في الواقع، يُلاحظ في أزمة «كورونا» تراجعٌ للأسطرة الدينية للوباء مقابل صعود الأسطرة السياسية له (بحسب مركز «بيو»، 37% من الجمهوريين يعتقدون أنّ الفيروس صُنع في مختبر مقابل 21% من الديموقراطيين).
يرى المفكّر الإيراني المثير للجدل مصطفى ملكيان، أنّ ظاهرة الإلحاد تصبح أكثر انتشاراً بين الناس، في ظلّ معاناة البشر الناتجة عن الحروب المدمّرة وانتشار الأوبئة وحصول الكوارث الطبيعية التي تحصد آلاف الناس. ومنشأ الإشكالية هنا، هو أنّ الإنسان قد لا يجد الطاقة النفسية والمبرّرات العقلية لتقبّل هذا النمط من الآلام والمآسي، في ظلّ وجود إله يستطيع منعها إن لم يكن هو المسبّب لها، بحسب ما قد يفهم الإنسان العادي والبسيط. وفي إطار رفع هذه الإشكالية، يدعو ملكيان إلى فهم الدين في إطار ضرورة تحديد «توقعات البشر من الدين»، بمعنى ضرورة تحديد ما هي الأمور التي يمنحها الدين للإنسان في هذه الحياة، ذلك أنه ليس من وظيفة الدين منع حصول الكوارث الطبيعية، أو الحؤول دون إصابة الإنسان بالألم والمرض، بل وظيفة الدين هي إضفاء معنى على الآلام التي تصيب الإنسان وإعطاؤه القدرة على مواجهة المشكلات، وربط مسيرته الحياتية بهدفية تربطه بالقيم المعنوية في الدنيا والخلاص في الآخرة. (سلسلة محاضرات لمصطفى ملكيان في كلية الإلهيات/ جامعة طهران تحت عنوان «توقعات البشر من الدين»، نقلاً عن الدكتور حبيب فياض).

ثالثاً: القدرة على المساهمة في خدمات الرعاية وتخفيف المعاناة
تاريخياً، كان هذا هو الاختبار الأشد للمؤسسات الدينية، لا سيما الكنيسة، التي كانت الجهة المعوّل عليها لتقديم الرعاية والخدمة الاجتماعية حين كانت الدولة ومؤسساتها غائبة أو في أطوارها الجنينية. فمتى نجحت المؤسسات الدينية في هذه المهمة، كانت تزدهر وتنتشر أفكارها والعكس صحيح. وتحوي الأديان، عموماً، جوانب تحثّ على الإيثار والتكافل والإغاثة وبذل المحبة، لا سيما في الجوانب الاجتماعية، كانت المؤسسات الدينية تستند إليها لتعبئة الموارد المجتمعية في الكوارث والأزمات. مثلاً، يذكر بعض علماء المسلمين عن حكمة النَهي عن الخروج فراراً من الطاعون «أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو غيره ضائع المصلحة ولفقَدَ من يتعهده حياً وميتاً، ولو أنه شُرع الخروج فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء».
يرى ويليام شويكر، أستاذ في مجال الأخلاق اللاهوتية في جامعة شيكاغو في مقالة بعنوان «دين مُعدٍ»، أنّ الدين والمرض وبشكل غريب ساهما في تشكيل بعضهما البعض، من ناحية دور التعاليم والممارسات الدينية بخصوص المرض والاستجابة له. فمثلاً، تحضّ بعض التعاليم الدينية على الاحتكاك مع المرضى، حتى مع احتمال تعرّض حياتهم للخطر، فيما ديانات أخرى تكون أكثر حذراً كما يُنسب لليهودية. إنّ الخدمة الاجتماعية والإغاثية وإنتاج إحساس بالأمان النفسي والروحي، تمثل مصدراً هائلاً لمشروعية المؤسّسات الدينية ودورها.


يمكن للمؤسسات الدينية أن تنجح في تقديم نموذج تشاركي مع المؤسسات العلمية بمساهمتها في تشجيع التفكير العقلاني وتحفيز المؤمنين للالتزام بالتدابير والتخفيف من آثار الوباء الاجتماعية والنفسية

 


تعرض ستون التجربة المسيحية في التعامل مع الأوبئة، فتشير إلى أنّ المؤرّخين يرون أن الطاعون الأنطوني الذي أصاب الإمبراطورية الرومانية (استمر بين عامي 165 و180 وقتل 10% من سكانها تقريباً) أدى إلى انتشار المسيحية بفعل ما قدمه المسيحيون من رعاية ونموذج روحي، حيث اعتُبرت الأوبئة من نتائج «أفعال الخليقة المكسورة المنتفضة بوجه إله مُحب». ثم كان الطاعون القبرصي (249م ـــ 262م) في الإمبراطورية الرومانية أيضاً، ونتيجة لعظات الكاهن سايبريان (القبرصي) الذي دعا لاستبدال البكاء على ضحايا الطاعون لأنهم في الجنة، بمضاعفة الجهود للاهتمام بالأحياء وتحمّل مسؤولية المرضى وتلبية احتياجاتهم بمعزل عن ديانتهم، ما أدى إلى انتشار واسع للمسيحية. ونتيجة لذلك، كان عدد ضحايا الطاعون أقلّ من النصف في المجتمعات المسيحية بالمقارنة مع سواها، كما توصل عالم الاجتماع رودني ستارك. وهذا موقف كرّره مارتن لوثر عام 1527 مع وباء بوبونيك، حين دعا المسيحيين إلى مواجهة الطاعون والموت في مواقعهم، وحيث على الأطباء الصمود في المستشفيات والحكام في إدارة المقاطعات، فالطاعون «لا يلغي المسؤوليات علينا، بل يحوّلها إلى صلبان وعلينا أن نكون جاهزين للموت».
في المقابل، أدى الطاعون (الموت الأسود) الذي اجتاح أوروبا، بين عامي 1347 و1351، إلى تضعضع الكنيسة الكاثوليكية، وإلى صعود حركات دينية من خارج هرمية الكنيسة. تفحص أطروحة ماك لورين زينتنر (جامعة ميسيسيبي، 2015) كيف فشلت الكنيسة في مواجهة الطاعون، وفي التعامل مع نتائجه المدمّرة، فانكشفت هشاشة وعودها الدنيوية وتراجعَ الإيمان الشعبي بها والثقة بدورها، وهي المؤسسة التي كان منوطاً بها حينها ضمان الاستقرار والهداية. لقد اكتشف المؤمنون «الجانب البشري» من الكنيسة الذي عجز عن إنقاذهم من الوباء، بحسب زينتنر. هذا الضمور في دور الكنيسة لم ينعكس سلباً على الإيمان بالله، بل صعدت حركات دينية أكثر تعلّقاً بفكرة الغيب.
وتحيل أطروحة زنتنر فشل الكنيسة في مواجهة الوباء حينها إلى جملة أسباب منها: أن الكنيسة كانت تمرّ بمرحلة ضعف قبل وقوع الوباء، نتيجة انزلاقها إلى لعبة الثروة والسلطة. ثمّ أن الكنيسة فقدت في المرحلة الأولى من الوباء عدداً كبيراً من كهنتها، ممن كانوا يشاركون في طقوس الاعتراف أو طقوس الدفن (لذلك، صدرت فتاوى أجازت لأيّ شخص موجود قرب الشخص المحتضر «حتى لو كانت امرأة» أن يتلقّى الاعتراف). فمن المحتمل أن معدل الوفيات بين الكهنة كان أعلى من معدل الوفيات بين الناس (تراوحت معدلات الوفيات بين الكهنة بين 45% إلى 60% فيما تشير دراسات إلى أن الرقم الأكثر دقة هو 30%). هذا النقص الحاد في العنصر البشري قلّص قدرة الكنيسة على الإتيان بدورها في طقوس الاعتراف للمحتضرين ودفن الموتى، أي مراسم «فن الموت» حيث كانت الطقوس التي يؤدّيها الكهنة تضمن عبور المؤمنين الآمن نحو العالم الآخر، ما يساعد الأحياء على تقبّل فكرة الموت ويحمي تماسك النسيج الاجتماعي والعودة إلى دورة العمل والحياة. وكان لهذا الخلل آثار نفسية واجتماعية مدمّرة. كما قوّض الوباء من ميزتَي الخبرة والانتظام داخل الكنيسة بفعل الوفيات بين رجالها، وهو ما دفع إلى استقطاب منتسبين جدد لا يمتلكون المعرفة الكافية ولا الخبرة ولا حسّ الانتماء. ونتيجة ذلك، توفّرت فرصة لرجال الدين أثناء وبعد الوباء لرفع أجورهم وتكديس الثروات ما فاقم النقمة عليهم.
أمّا تبعات فشل الكنيسة فكانت هائلة وعميقة. أولاً، شاعت الأعمال الخيرية الخاصة بعيداً عن سلطة الكنيسة، ما قوّض احتكار الكنيسة للخدمات الاجتماعية. فصارت الهِبات والصدقات تُنفق مباشرة، ولا سيما لصالح المستشفيات. ثانياً، كان لافتاً أثناء وبعد الوباء، الزيادة في أعداد الحجيج المسيحيين إلى روما والأماكن المقدسة، حيث أصبح السعي للخلاص فردياً ويمرّ عبر القديس وليس الكاهن. وثالثاً، انتشرت النزعات الصوفية حيث العلاقة مع الله لا تستلزم الكنيسة، فالله في قلب المؤمنين. وفي هذا السياق، شهدت حركة مواكب «جلد الذات» ازدهاراً واسعاً خلال وبعد الطاعون الذي قُدّم على أنه عقاب إلهي على الخطايا التي لا بدّ من التطهّر منها بمعاقبة النفس. وقد روّجت هذه الحركة الدينية للقدرة على اجتراح المعجزات ومنح الخلاص، ودخلت في صراع محموم مع الكنيسة وتحدّت هرميتها وأشاعت مرويات عن قرب ظهور حاكم قوي سيسفك دماء الكهنة ويعيد السلطة للناس.
في العصر الحالي، يتواصل دور المؤسسات الدينية الاجتماعي والإغاثي، لا سيما في بلدان العالم الثالث حيث تعاني الدولة من الضعف ونقص الموارد، بينما لا تزال المؤسسات الدينية الكبرى قادرة على جذب الموارد (المادية والمعنوية) وتعبئتها. فيبرز، مثلاً، دور الكنائس في أفريقيا بالتعامل مع مرض «الإيدز» (في ملاوي 30% من المسيحيين يزورون مرضى «الإيدز» بالمقارنة مع 7% من المسلمين، بحسب مسح يستند له هيوز) وهو ما يُسهم في انتشار المسيحية. يرى هيوز أن هذا التعاطف في المجتمع المسيحي تجاه مرضى «الإيدز» يفسّر لماذا 10% ممّن شملهم المسح تحولوا نحو الديانة المسيحية. فوجودهم ضمن البيئة المسيحية سيضمن لهم في حال إصابتهم بـ«الإيدز» التعاطف والعناية وتكون وصمة العار أقل وطأة. وفي ما يخصّ وباء «كورونا» تنشط المؤسسات الدينية بشكل بارز في دول المنطقة، ففي إيران سارعت المؤسسات المرتبطة بمقام الإمام علي الرضا إلى إنتاج المعقّمات وصنع الكمامات وتوزيعها بالمجان، وأفتت مرجعيات دينية أنه لا مانع من أن يُنفق المرء من أموال الزكاة على شراء أدوات الحماية من العدوى، وفي لبنان تحشد مؤسسات حزب الله مواردها البشرية والمادية في حملة استجابة واسعة مقدّمة للخدمات الصحية والإرشادية والغذائية.

خاتمة
ستكون تأثيرات وباء «كورونا» معقّدة ومتباينة في ما يخصّ الدين ومؤسساته، وبما أن الحدث لم يكتمل بعد، فلا يمكن إلا التفكير بالاتجاهات المحتملة. الأديان اليوم أصبحت تعمل من ضمن منظومات كبرى مثل الدول، فالأديان تمأسست إلى حدّ بعيد، وتنحاز نحو خطاب وأداء عقلاني تجاه المسائل حيث للعلم التجريبي سطوة جليّة. وهذا ما ينعكس اليوم في تأكيد المؤسسات الدينية على وجوب احترام التخصّص العلمي والالتزام بما تفرضه التعليمات الطبية والرسمية (اعتبر الإمام السيد علي الخامنئي ضحايا الكادر الطبي بسبب الفيروس بمنزلة «شهداء الخدمة»). بينما يُلاحظ أنّ المقاربات «النافرة» تأتي من جماعات دينية هامشية وبعيدة عن مراكز المسؤولية، وهي تصرّ على خطاب «ساذج وعاطفي» لتحدّي التيار السائد وتعبئة جماهيرها واستقطاب جدد من المهمشين على صعيد التعليم والتنمية. بهذا المعنى، قد يحفّز الوباء التنافسات داخل الأديان نفسها وليس بين الدين والعلم. كما يمكن للتعاون بين مؤسسات دينية من اتجاهات مختلفة (طائفية ومذهبية) في مواجهة الوباء، أن يساعد على تضميد عداوات دينية وسياسية واجتماعية.
ثم إنّ المؤسسة التي تكون عرضة للتحدّي والمخاطر في الأزمات هي تلك المعنية بالتصدي لها، وهي اليوم ليست الأديان ومؤسساتها، كما في القرون السابقة، بل الدولة والعولمة والعلم. لذلك الكتابات اليوم في معظمها، تتجه إلى تناقش في مستقبل الدولة والعولمة الرأسمالية والنظام الدولي بعد «كورونا»، لأنّ هذه المؤسسات والأطر مفترض أنها في الخندق الأمامي، والفشل في مواجهة الفيروس سيرتد عليها سلباً بالدرجة الأولى. وهذا التأثير سيكون مركزه في العالم الغربي، وقد يكون من مفاعليه تعزيز التيارات الروحية والتأملية وليس الأديان نفسها. أما إن حاولت المؤسسات الدينية مصارعة العلم في الأزمة الحالية، وعجزت عن دورها في التعاطف والرعاية، ولم تفلح في ضبط توقعات الناس من الدين تجاه الوباء، فهذا ما يمكن أن يقوّض هذه المؤسسات لصالح مزيد من التدين الفردي أو نزعات الإيمان الروحي وربما الإلحاد.
سينجح العلم، بما يملكه من تراكم في البنى المعرفية والمادية، في التصدّي للوباء الحالي في نهاية المطاف، وإن كنّا لا نستطيع أن نقدّر الآن بأية كلفة سيكون ذلك. كما يمكن للمؤسسات الدينية أن تنجح في تقديم نموذج تشاركي مع المؤسسات العلمية بمساهمتها في تشجيع التفكير العقلاني وتحفيز المؤمنين للالتزام بالتدابير والتخفيف من آثار الوباء الاجتماعية والنفسية. تنتقد كاثرين براون (مدونة أوكسفورد يونيفرسيتي برس، 19 آذار 2020) المقاربة السلبية التي طغت في السنوات الأخيرة تجاه الدين في السياسة الدولية، بتصويره مخرباً لـ«التقدم السلمي الصحي للسياسات العلمانية»، إذ أن «الدين حالة معقدة أكثر من كونه جيداً أو سيئاً». وترى براون أنه كان للدين دور إيجابي أحياناً في مكافحة الأمراض والأوبئة، وأن السلطات في حالة «إيبولا»، وربما «كورونا»، تأخرت في إدراك الدور الحيوي للمنظمات الدينية في دعم الخدمات الصحية. فالدين ليس فقط عبادات أو هويات، بل معايير وقيَم ومنها سياسات الأمل التي تمنحنا أفكاراً للتعاون بين المجتمعات الدينية، وبينها وبين الحكومات والوكالات الدولية، بما يسهم في تجاوز الخوف وغياب الثقة وهي أمور مهمة في مواجهة انتشار «كورونا»، تخلص براون. إنّ البشرية اليوم بحاجة إلى التواضع، والمؤسسات العلمية والمؤسسات الدينية كلها بحاجة إلى التواضع أيضاً، ويمكن للكثير من هذه المؤسسات أن تتبادل الاعتراف وتتعاون في عالم من الواضح أنه مقبل لأن يكون أكثر رعباً.

*جريدة الأخبار اللبنانية

 

أضيف بتاريخ :2020/04/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد