آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الباري عطوان
عن الكاتب :
كاتب وصحفي سياسي فلسطيني رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم

ما هي رسالة مئات الآلاف الذين تجمعوا في شارع السبعين في صنعاء؟

 

عبد الباري عطوان ..

أتجنب دائما الكتابة في المناسبات السياسية أو الأحداث العسكرية المصيرية، لأن القارئ لا يستسيغها في معظم الأحيان، ويرى فيها اجترارا لبعض الجمل الإنشائية بهدف ملء مساحة، ونتيجة إفلاس، وربما الاستسهال أيضا، ولكن هناك مناسبات يصعب تطبيق هذه القاعدة عليها، وعلى رأسها دخول الحرب في اليمن التي تدخل عامها الثالث اليوم، لما لها من تداعيات إقليمية ودولية يمكن أن تلعب، دورا رئيسيا في تغيير شكل المنطقة ودولها.

قبل عامين عندما انطلقت “عاصفة الحزم” بأكثر من مئتي طائرة من طراز “اف 16″ الأمريكية الصنع، بقيادة المملكة العربية السعودية، تمثل الدول الأكثر ثراء في قصف لواحدة من أفقر دول العالم ماديا، ولكنها واحدة من أغناها حضارة، وثقافة، وإبداعا، وكرامة، وعزة نفس، وإرادة عالية في الصمود والدفاع عن النفس.

“عاصفة الحزم، التي لم تحسم أي من القضايا التي انطلقت من أجلها، تحولت إلى حرب “إعادة الأمل”، ولكن هذا الأمل لم يعد سواء لأصحابها بالنصر، أو لليمنيين المستهدفين من قصف طائراتها، تغير الاسم، ولم تتغير أدوات الموت والدمار، كما لم يتغير العميد أحمد العسيري، الناطق باسم التحالف، وأن كان قد رقي إلى درجة لواء لبلائه الإعلامي، وليس العسكري، وتزويره للكثير من الحقائق في إطار الحرب النفسية التي لعب دورا كبيرا فيها، وهذا أمر مألوف في معظم الحروب، أن لم يكن كلها، ويكفي الرجل ما لديه من مصائب وإخفاقات.

أتذكر بشكل أقرب إلى الدقة، ونحمد الله أن الذاكرة ما زالت قوية، تفاصيل المشهد في بداية انطلاق العاصفة وصواريخ طائراتها، بجوانبه السياسية والعسكرية والإعلامية، وكيف انعكست حالة الثقة بالنصر (على من؟) على شكل مقالات صحافية وبرامج تلفزيونية، مرفوقة بتهديدات و”توعدات”، اعتقد الكثيرون أن طائرات العاصفة ستتوجه شرقا إلى طهران، عاصمة الفرس المجوس عبدة النار، لتدميرها، وسبي نسائها الجميلات.

أذهلنا حديث البعض في تلك المرحلة التي كانت حافلة بـ”الأمل”، عن “عقيدة سلمان” التي أنهت عهد الطيبة والسكينة، وتبنت الرد والتعاطي “العسكري الحازم” مع كل الجيران (باستثناء إسرائيل)، والإيرانيين منهم على وجه الخصوص، الذين تسللوا إلى اليمن وسورية واحتلوا خمس عواصم عربية على رأسها بغداد تليها دمشق وصنعاء وبيروت، ونسينا الخامسة، فاعذرونا.
***
الهدف من انطلاق “عاصفة الحزم” كان إعادة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي إلى مدينة صنعاء بعد استعادتها من المتمردين الانقلابيين المتمثلين في التحالف “الحوثي الصالحي”، ولكن الرئيس هادي عاد فعلا، ولكن إلى الرياض بعد إقامة قصيرة في عدن، حيث تعرضت طائرته من المنع من الهبوط في مطار الثانية، وحاول إصلاح الأمر بزيارة خاطفة إلى أبو ظبي لم تستغرق إلا ساعات معدودة، والتقى بقيادتها وقوفا في أحد الكوريدورات، وسمع كلاما قاسيا، فالتقط الرسالة وعاد من حيث أتى، وهناك تفاصيل عديدة لم يحن بعد موعد سردها.

أعرف الرئيس هادي شخصيا، وألتقيته عام 2000 في أحد البيوت الخاصة للرئيس علي عبد الله صالح في صنعاء، وكان بيتا متواضعا، ولاحظت أطفالا يترددون على غرفة الجلوس التي امتلأت بحزم القات بعد انتهاء وجبة الغداء، عرفت أنهم أطفاله، دخل السيد هادي وكان طويلا، ويبدو عسكريا بزي مدني (بدلة تميل إلى الأزرق الفاتح)، باعتباره نائبا للرئيس، والتهذيب كان طابعه، وقلة الكلام أيضا، ولم “يشاركنا” في حفلة تخزين القات، التي لا أعرف ما إذا كانت أقيمت على شرفي أم أنها تقليد يمني في يوم العطلة، وكل أيام اليمنيين عطلات عندما يتعلق الأمر بالتخزين، وكان من بين الحضور الراحل الداهية عبد الكريم الارياني، وباجمال وزير الخارجية السابق (أين هو الآن؟)، لم أقابل الرئيس هادي بعدها ولا الرئيس عبد الله صالح لأنني لم أزر اليمن منذ ذلك التاريخ، على عكس اعتقاد الكثيرين.

الرئيس هادي قال في حديث لصحيفة “الرياض” بهذه المناسبة أن “الحل في اليمن سيكون عسكريا للوصول إلى حل سياسي”، وهذا الكلام الذي استوقفني أمر متوقع منه كرجل عسكري قاد الحرب لإجهاض حركة الانفصال عام 1994 وللمصادفة تحت قيادة الرئيس صالح، ولكننا على قناعة أن الحل العسكري وبعد سنتين من انطلاق “العاصفة” يزداد صعوبة، كما أن العملية التفاوضية انهارت وماتت بالتالي، وذابت عظامها أو كادت، وربما تكون معاناة اليمنيين الأهون من جيرانهم المعتدين عليهم، لأنهم لم يتعودوا عليها، وعاشوا سنوات في نعيم الاستقرار وتجنب الحروب والتقشف.

التحالف “الحوثي الصالحي” لا يريد الحل العسكري لأنه لا يستطيعه في ظل إمكانياته العسكرية البدائية بالمقارنة مع قدرات خصمه السعودي، ويعمل على تخريب أي حل سياسي لا يحقق له اعترافا بسلطته، ومعلوماتنا تؤكد أن العسكريين الصقور في هذا التحالف يناسبهم الوضع الحالي أكثر ويخططون إلى إطالة أمده، أي جر السعودية وحلفائها إلى حرب استنزاف مالي وعسكري تؤدي إلى إفلاسها ماليا، وتفكك التحالف نتيجة التكاليف الباهظة بشريا، واتساع شقوق الانقسامات والخلافات، وفعلا بدأت هذه الإستراتيجية تعطي ثمارها، وهي مرشحة لمثار اكبر في ظل دخول سلاح الصواريخ الباليستية إلى الميدان، إلى جانب مفاجآت أخرى متوقعة.

الرئيس صالح الذي يوصف بأنه مثل القطط بسبعة أرواح، وأعذرونا على التشبيه، خرج اليوم الأحد في ميدان السبعين الأثير إلى قلبه، محتفلا بـ”الصمود” طوال العامين الماضيين، وسط حشود شعبية قدرها البعض بأكثر من مليون ونصف المليون، بينما قالت وكالة الأنباء الفرنسية أنها تقدر بمئات الآلاف، قال السيد عبد الملك الحوثي في خطاب ألقاه “العدو يعيش الوهم ويقول إنه سيحسم المعركة في هذا الأسبوع، أو هذا الشهر، ولكننا مستمرون في التصدي طالما هناك عدوان”، أما الرئيس السابق صالح فقال “إن اليمنيين الأحرار سيستمرون في التمسك بخيار المقاومة والدفاع طالما استمر العدوان بقيادة السعودية في غيه وغطرسته وعدوانه على بلادنا ومتمسكا بخيار الحرب”.

اليمنيون الذين راهنوا على حل سعودي عسكري سريع بدأوا يغيرون مواقفهم، أو معظمهم، وينضمون إلى صفوف مقاومة العدوان، فهم يمنيون في نهاية المطاف، و”الشرعية” وداعموها لم تحقق لهم الحد الأدنى من طموحاتهم.
***
لا أعرف إلى متى تستمر السعودية وحلفاؤها في خيار الحرب في اليمن، وهي تتورط في حرب في سورية، وأخرى قانونية وشيكة في أمريكا بسبب قانون “جيستا”، والقضايا المرفوعة من قبل المتضررين من هجمات سبتمبر، ومن بينهم أهالي 3500 شخص، وتقدرها أوساط محايدة بحوالي 4 تريليون دولار، علاوة على طابور طويل من الحكومات العربية التي تحمل “صحن التسول” لمساعداتها المالية.

اليمن يشهد الآن أكبر أزمة إنسانية في العالم، حيث يواجه سبعة ملايين يمني الجوع حرفيا بسبب الحصار الخانق، علاوة على ثلاثة ملايين طفل يواجهون السيئين، أي الأمية والموت جوعا، لتدمير أو إغلاق مدارسهم، وملايين الموظفين لم تدفع “عاصفة الحزم” أو شقيقتها “إعادة الأمل” رواتبهم منذ أشهر، ولا ننسى عشرة آلاف شهيد وأربعين ألف جريح.

السيد أحمد بن دغر رئيس الوزراء أعلن أمس أن “عاصفة الحزم” استعادت 85 بالمئة من الأراضي التي استولى عليها الحوثيون وحليفهم صالح، يا سيدي هذا كلام جميل، أعيدوا الرواتب للموظفين ووفروا الطعام لسبعة ملايين جائع يمني فقط، وشكر الله سعيكم.

كثيرون لم يتوقعوا أن تستمر حرب “عاصفة الحزم” لعامين، ولكن لم تكن مطلقا من بينهم، فمن يعرف اليمن واليمنيين لا يستغرب هذا الصمود في وجه العدوان، ويحبط معظم مخططاته، وينقل الحرب إلى أراضي أصحابه في الشمال.

لن نطيل في سرد مفارقات هذه الذكرى، ففي الجعبة الكثير الذي يمكن قوله، ولكننا نفضل تركه لمناسبة مرور الذكرى الثالثة، ودخول الحرب عامها الرابع، واعذرونا مرة ثالثة إذا كنا متشائمين.

الاستسلام ليس من بين مفردات قاموس الإنسان اليمني، وهو مثل الجمل يصبر ويصبر، ولكن أن ثار فأن ثورته لن تتوقف حتى ينتقم من أعدائه.. والأيام بيننا.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2017/03/27

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد