آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

انعدام الاستقرار ناجم عن ازدواجية المعايير


د. سعيد الشهابي
 
بينما العالم الغربي يقترب من موسم عيد ميلاد المسيح عليه السلام، تبدو روح العدل والتسامح التي ميزت شخصيته المقدسة غائبة عن تعامل سياسيي «العالم الحر» مع حقائق الواقع. وغياب هذه الروح من عوامل التوتر في عالم اليوم، وانتشار التطرف وتنامي العنف والإرهاب والتعصب.

هذا الواقع يتأسس على الانتقائية والمعايير المزدوجة وتضليل الرأي العام والترويج لتبريرات واهية لدعم أنظمة الاحتلال والاستبداد في المنطقة، ولذلك فهو واقع لا ينسجم مع قيم العدل التي أرادها الرب من جهة، والتي طالما طرح الفلاسفة والمفكرون أطرها عبر آلاف السنين. هذا العالم فيتظاهر بالاحتجاج ضد قرار الرئيس الأمريكي الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، وهو قرار يتعارض مع القرارات الدولية التي صدرت منذ قرار التقسيم في 1947 مرورا بكافة القرارات التي أعقبت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على فلسطين وأهلها. لكنه يتعاطى مع هذا الرئيس ويحصر انتقاداته بالتصريحات فحسب، بينما يستمر في التعاطي مع واشنطن وكأن شيئا لم يكن.
عالم اليوم يتظاهر بشجب السياسات الإسرائيلية، وينتقد الاحتلال، ويتظاهر بالتضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكنه يتعامل مع كيان الاحتلال، ويتبادل معه العلاقات الدبلوماسية، ويستقبل وفوده وممثليه، ويرفض حتى الآن الاعتراف بحق شعب فلسطين في إقامة دولته المستقلة. وبفضل سياسات بعض الدول العربية، لم تتغير المواقف فحسب، بل حتى المصطلحات، فلم يعد الاحتلال «عدوا» ولم تعد هناك قضية فلسطينية عنوانها الاحتلال، بل تحولت القضية إلى «نزاع» إسرائيلي ـ فلسطيني. ولم يعد الساسة الإسرائيليون مجرمي حرب أو محتلين أو أعضاء في نظام احتلال غاشم، بل عبر عنهم بعض الساسة العرب بـ «الأصدقاء». هؤلاء الساسة يعتبرون الفلسطينيين «متطرفين» و «راديكاليين» و «مغامرين». ويتم التواصل بين هذه الأنظمة وممثلي كيان الاحتلال، بينما تقاطع هذه الأنظمة المجموعات الفلسطينية المناضلة، وتتنكر لمقاومة الاحتلال، وتقطع كافة علاقاتها مع قوى المقاومة. ينطبق هذا على دول الغرب، كما على دول المنطقة التي ما فتئت تسعى للهيمنة على الرأي العالم العربي والإسلامي وتطبع علاقاتها مع قوات الاحتلال.

هذا العالم يتوحد في الضغط على إيران بشأن ملفها النووي برغم انتمائها للوكالة الذرية للطاقة الدولية، ويتجاهل الكيان الإسرائيلي الذي يمتلك مشروعا نوويا عسكريا ولديه أكثر من 200 رأس نووية، ويرفض الارتباط بالوكالة الذرية ويرفض أي تفتيش لمنشأته النووية. بعض الزعماء العرب لم يعد يرى أن «إسرائيل» هي المشكلة الأساس في التاريخ العربي المعاصر، بل أن إيران هي المصدر الذي يهدد الأمن والاستقرار في الخليج والمنطقة. هذا التغير في الرؤى والأولويات يعكس مدى ما حققه عالم اليوم من تراجع على صعيد المبادئ والقيم والعلاقات الدولية، وما تعاني منه دول النفط العربية اليوم من تخمة مالية عملاقة تتيح لأصغرها الفرصة للظهور بمظهر القوة غير المحدودة.

فدولة الإمارات مثلا التي لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين بعض مئات من الآلاف، تحتل اعرق دولة في الجزيرة العربية، وتضع يديها على ممتلكاتها وجزرها، من سوقطرة إلى ميناء عدن وتسعى لاحتلال ميناء الحديدة. هذا البلد الصغير يسيطر على موانئ عديدة عند باب المندب لضمان سلامة الملاحة المتجهة نحو «إسرائيل» بشكل خاص، ومن هذه الموانئ اليمنية عدن ومخا والمكلا وثمة سعي للسيطرة على ميناء الحديدة. كما تسيطر على موانئ بربرة وجيبوتي وعصب على الساحل الأفريقي بعد أن دخلت في عقود لاستئجارها مددا طويلة. هذه السيطرة لا يعتبرها الغربيون «تدخلا» أو «توسعا»، بل يدعمون ذلك ويتعاملون مع الإمارات وكأن شيئا لم يكن. أما الحديث الحقوقي عن السجناء السياسيين مثل أحمد منصور ومحمد الركن وسواهما فمحدود وخجول ومحصور بالمنظمات الحقوقية التي لا تملك شيئا سوى إصدار البيانات.

عالم اليوم يصمت عمليا على الاعتداءات التي يشنها الطيران الإسرائيلي على غزة، لكنه يبرر لها ذلك حين تطلق إحدى مجموعات المقاومة الفلسطينية قذيفة باتجاه ذلك الكيان، ويعتبر ذلك مبررا لحروب غير متكافئة تشنها «إسرائيل».

ويتواصل الصمت حتى عندما تتوسع دائرة النفوذ الإسرائيلي في هذه البلدان ويؤثر على حرياتها العامة خصوصا حرية التعبير، فمن ينتقد السياسات الإسرائيلية يعتبر «معاديا للسامية» ومن يتعاطف مع الفلسطينيين يصنف في خانة «التطرف». العالم الحر يبرر للحرب التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية على اليمن، ويصمت عن استهداف المدارس والمستشفيات والأسواق وصالات الاجتماعات والزواج، ويأخذ على بعض مكونات اليمن وفي مقدمتها جماعة أنصار الله تصديها لما تعتبره عدوانا على بلدها. هذا العالم يتجاهل تقريرا صدر الأسبوع الماضي بأن «أسلحة قدمتها الولايات المتحدة وأمريكا سقطت في أيدي الدولة الإسلامية». وقالت مؤسسة أبحاث التسلح في الصراعات (كار) إن تنظيم الدولة الإسلامية امتلك أسلحة « قدمتها في الأساس دول أخرى لا سيما الولايات المتحدة والسعودية لجماعات المعارضة السورية التي تقاتل الرئيس السوري بشار الأسد». فهنا يصبح دعم الإرهاب مقبولا، ولا تتخذ إجراءات بحق من يزود الإرهابيين بالسلاح والعتاد. ولكن هذا العالم قادر على تحريك الأمم المتحدة كلها للتحقيق حول مصدر صاروخ أطلقته قوات يمنية على مطار الملك خالد في السعودية. ويدعي الأمريكيون، على لسان السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، أن طهران هي مصدر ذلك الصاروخ.

وقالت في مؤتمر صحافي في قاعدة عسكرية على مشارف واشنطن «هذه (الأسلحة) إيرانية الصنع.. وأرسلتها إيران.. ومنحتها إيران». وشملت تلك الأدلة بقايا متفحمة قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إنها من صواريخ باليستية قصيرة المدى إيرانية الصنع أطلقت من اليمن في الرابع من نوفمبر /تشرين الثاني على مطار الملك خالد الدولي خارج العاصمة السعودية الرياض. لكنهم يتجاهلون الأسلحة الهائلة التي زودوا اليمن بها خلال الثلاثين شهرا الماضية.

في عالم تمارس قواه الكبرى سياسات «التذاكي» على شعوبها والآخرين، يتم تدريجيا إفراغ المبادئ والقيم والأخلاق من محتواها، ليصبح محكوما بالقتلة والسفاحين وشركات السلاح والمؤسسات المتعددة الجنسية. هذا العالم يمارس سياسات ازدواجية المعايير ليس مع الشعوب الأخرى فحسب بل حتى على المواطنين الذين يحكمهم. ولتكريس مقولة الحرية والاهتمام الإنساني يسمح للمنظمات الحقوقية بفضح الانتهاكات التي تمارسها أنظمة القمع المتحالفة مع العالم الحر، ولكنها تغض الطرف عن تلك التقارير وتواصل سياساتها وعلاقاتها مع «الأنظمة الصديقة» بشكل طبيعي، ولا تمثل سياسات الاضطهاد التي تمارسها تلك الأنظمة أي قلق حقيقي لديها. في هذا العالم تتوسع الفجوة بين المبادئ والممارسة، وتروج وسائل الإعلام مقولات «المصلحة» و«الأمن» و«الواقعية» لتبرير الصمت على الجرائم وغض الطرف عن الحروب، وتجاهل استغاثات ضحايا العدوان. وعندما تؤكد المؤسسات الخيرية الدولية انتشار الأوبئة في بلد محاصر منذ ثلاثة أعوام وآخرها «الدفتريا» تنبري وسائل الإعلام، تحت ضغط الخجل والحرج، لبث خبر صغير هنا وآخر هناك، حول ذلك، ولكن مع تجاهل مشاهد الدمار المادي والبشري واستغاثات المظلومين الذين تسحقهم كل يوم القنابل والصواريخ التي تزود بها دول العدوان في إطار «ضمان مصالح المواطنين وتوفير الوظائف للآلاف منهم». ففي العالم الحر تستخدم مقولة توفير الوظائف لعقد صفقات كثيرا ما أدت لقتل الأبرياء.

الموازين هنا مختلفة جدا، فلا مكان للعقل أو الإنسانية في الحسابات السياسية والاقتصادية، بل أن تغليب ما يراه السياسيون «مصلحة» على الأخلاق والقيم والمبادئ هو ما يمثل «الاعتدال» و«الواقعية». هذه السياسة مرفوضة دينا ومنطقا. فالمبدأ القرآني يؤكد ضرورة العمل بمقتضى القول، ويمنع أن تتحول المبادئ والقيم إلى شعارات جوفاء: يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون». هذه المبادئ لا يلغيها أو يقلل من شأنها ممارسات الأشخاص وان كانوا «إسلاميين»، سواء كانوا في السلطة أم في المنظمات السياسية أو حتى الإرهابية.

عالم اليوم يفتقر للقيم الإنسانية الحقيقية خصوصا الصدق والشفافية والتوازن والأخلاق. وكلها قيم لا تتوفر إلا ضمن إطر ضيقة، أما في عالم السياسة فتحظى بوجود نسبي وليس مطلقا. لذلك تستمر الأزمات والخلافات والحروب. وكما جرت العادة في المجتمع الإنساني، فأن آثارها السلبية تطال عامة الناس وليس النخب السياسية وأصحاب الشأن. وهذا هو الظلم عينه. من هنا فليس خارجا عن المنطق التفكير في احتضان القيم الدينية في العالم السياسي.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/12/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد