آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

مأزق الإسلاميين بعد الربيع العربي


د. سعيد الشهابي

على مدى نصف قرن كان هناك حضور واضح للتيارات الإسلامية في أغلب بلدان العالم الإسلامي.امتد هذا الحضور إلى كافة الساحات: السياسية، الاجتماعية، النقابية وحتى الرياضية. وكان شاملا، وعميقا، بخطاب لم يخل من الواقعية والتمدن، فكان من الطبيعي أن تحتضنه قطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية. فما سبب ذلك؟

البعض يعزو صعود التيار الإسلامي إلى تراجع ما سواه من المشاريع بعد الانتكاسات السياسية والحضارية التي شهدتها الأمة خلال العصر الاستعماري، وبلغت ذروتها باحتلال فلسطين، وكانت نكسة حزيران وسيلة التنبيه الأخيرة التي أيقظت الجسد النائم من سباته، حتى قال بعضهم: لقد خرج المارد من القمقم. شهد هذا الحضور حالات قوة وضعف، ولكنه فرض نفسه ليس على الساحات المحلية والإقليمية فحسب بل حتى في البلدان غير الإسلامية. وأنها لحالات نادرة أن يمتلك ذوو المشروع شجاعة تدفعهم لطرح مشروعهم على القوى الكبرى. فمشهد الوفد الإيراني الذي بعثه آية الله الخميني في مطلع العام 1989 جالسا أمام الرئيس السوفياتي آنذاك، ميخائيل غورباتشوف، لن يتكرر كثيرا. فقد حمل الوفد دعوة لقراءة الإسلام ونظامه، وتنبؤا تحقق بعد حين بسقوط المنظومة الشيوعية. هذا الحدث لن يتكرر في المستقبل المنظور لأسباب من بينها ما يعانيه حملة المشروع من ضعف وتراجع. هذا الحضور الإسلامي تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة. وربما كان الربيع العربي المحطة الأخيرة في ذلك الصعود، فما أسباب ذلك؟ وما مستقبل الحراك الإسلامي؟ وما مواقع الضعف في تلك المسيرة الطويلة؟ وإلى أين تتجه أوضاع الأمة في ظل تغول المشروع الغربي وتغير موازين القوى في العالم الإسلامي؟

المحطة الأخرى حدثت متزامنة مع ذلك، وتمثلت بحدثين مهمين: انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان، وتصدع الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي أدى إلى عالم أحادي القطبية، وفر للمشروع الإسلامي فرصة أخرى للتحول إلى مشروع سياسي أممي في عالم يبحث عن بدائل للنظام السياسي العالمي الذي هيمن على العالم بعد الحرب العالمية الثانية. فـ «الانتصار» المزعوم على المشروع الشيوعي دفع الغربيين لإعلان انتصار تاريخي ساحق على المنافس الأكبر لنفوذهم الدولي. في البداية أعلنوا تشبثهم بمشروعهم «الديمقراطي» وتحدث بعضهم عن ضرورة ترويجه، مشفوعا بالدفاع عن حقوق الإنسان كمنظومة ضرورية رديفة للمشروع السياسي. ولكن ما حدث لاحقا اضطرهم لإجراء تعديل جوهري لأولوياتهم. فقد كان من تبعات الحرب الأفغانية بروز تنظيم «القاعدة» الذي تزعمه أسامة بن لادن، وحدوث واحد من اكبر انتصارات أصحاب المشروع السياسي الإسلامي منذ الثورة في إيران. ففي العام 1992 خاض الإسلاميون (ممثلين أساسا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تزعمها الشيخ عباسي مدني وعلي بلحاج) الانتخابات البرلمانية الجزائرية وحققوا فوزا ساحقا فاق التوقعات.

كان ذلك الحدث ناقوس إنذار عاليا دفع أصحاب المشروع الغربي لاستيعاب واحد من أهم التبعات الحقيقية لسقوط الاتحاد السوفياتي. فقد تبلور نمطان يمثلان تحديا «إسلاميا» للمشروع الغربي، احدهما يتبنى العنف غير المحدود، والآخر قادر على الوصول إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع. وكلا الأمرين من وجهة نظر الغربيين، يمثل تحديا لهم وتهديدا لمصالحهم. ومنذ ذلك الوقت تغيرت أولويات الغرب في علاقاته مع العالمين العربي والإسلامي.

ويمكن اعتبار ربع القرن اللاحق مرحلة فحص البديل الإسلامي من جهة والتصدي العملي له من جهة أخرى. وبعيدا عن تفصيلات ما حدث من تطورات، فقد بدأ المشروع الإسلامي يتآكل من داخله، أما لأسباب بنيوية أو خطط خارجية استهدفت وجوده بشكل منهجي هادئ. ولتوضيح ذلك يمكن إيراد التطورات التالية:

أولا: أن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات الجزائرية في 1992 دفع الغربيين لدعم الانقلاب العسكري على المشروع الديمقراطي، الذي كان يومها واعدا بأن يكون بداية مشروع ديمقراطي عربي. وقد ساهم في صعود نجم الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحالة الشعبوية التي هيمنت على المنطقة بعد القرار السعودي باستدعاء القوات الأجنبية لإخراج القوات العراقية من الكويت بعد اجتياحها في 2 آب/أغسطس 1990. ويمكن القول أن تلك الحالة كانت الأخيرة من نوعها، فقد خرجت الجماهير العربية في عواصم البلدان الكبيرة ذات الشأن محتجة ضد استقدام القوات الأجنبية، وكانت تعتبر الولايات المتحدة عدوا وترفض كل ما يتصل بها.

كانت تلك الاحتجاجات التجسيد الأخير لشعبية الإسلام السياسي الذي كان ما يزال في تصاعد. وأكدت الاحتجاجات الواسعة أمورا عديدة من بينها: أن السعودية معزولة سياسيا واجتماعيا، وأن الضمير العربي لا يقبل بالتقارب مع أمريكا أو يتحالف معها لضرب أية دولة عربية أو إسلامية، وأن الوعي الجماهيري كان يفوق وعي الطبقات الأخرى كالعلماء والسياسيين. وقد كان انقلاب الجيش الجزائري على السلطة المنتخبة تدشينا لحقبة سوداء في تاريخ بلد المليون شهيد، تميزت بالعنف وأسست لظهور المجموعات المسلحة المتطرفة التي انتشرت لاحقا في ليبيا وسوريا والعراق والصومال. وعلى مدى العقد اللاحق بلغ عدد قتلى عنف المجموعات المسلحة وأجهزة الأمن 200 ألف من الجزائريين. وأكدت التجربة الجزائرية فشل الغربيين في الالتزام بمبادئهم أو الوفاء للمشروع «الديمقراطي» الذي حاربوا به الاتحاد السوفياتي.

ثانيا: شهد العقد التالي تطورات خطيرة في العالمين العربي والإسلامي تميزت بصعود تيارات التطرف والإرهاب والطائفية، بموازاة انفتاح الشهية السعودية على سياسة التوسع وبسط النفوذ والهيمنة، والسعي لقيادة العالمين العربي والإسلامي. ويمكن القول أن الاعتداء السعودي على مركز الخفوس القطري في 1992 كان بداية عهد من التوتر في منطقة الخليج لعبت السعودية فيه دورا مباشرا.

وبموازاة سياسة التوسع لم تجد الرياض غضاضة من التحالف مع مجموعات التطرف والعنف. وكان لذلك أثره المدمر على المنطقة طوال ربع القرن اللاحق. واعتقدت السعودية أنها ستعتمد على المواقف الشعبية في العديد من المناطق العربية والإسلامية بإعادة هندسة الوعي الجماهيري بعيدا عن التغيير السياسي أو التحرر من الهيمنة الغربية والاحتلال الإسرائيلي.

ثالثا: أن أصحاب المشروع الإسلامي السياسي اكتفوا آنذاك بالمراقبة السلبية بعد عقود من تعرضهم للاضطهاد في شتى البلدان العربية. وبذلك حدث فراغ كبير وفر للمجموعات المتطرفة فرصة لملئه، وشيئا فشيئا أصبحت هذه المجموعات تقود «مشروعا إسلاميا» جديدا يختلف في أساليبه وجوانبه الجوهرية عما لدى حركات الإسلام السياسي. حدث ذلك في أفغانستان بصعود مجموعة طالبان إلى الحكم في العام 1992.

رابعا: أن ثورات الربيع العربي فاجأت الإسلاميين جميعا، فاستقبلوها بدون استعداد سياسي أو تنظيمي أو على صعيد الخطاب والأهداف. ونظرا لعمقهم التاريخي كاد اغلبهم يصل إلى الحكم كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن. وقد أرعب ذلك قوى الثورة المضادة التي استطاعت امتصاص «الضرب الأولى» من المشروع الثوري وما لبثت أن عادت لتوجه صفعات موجعة لأصحاب المشروع الإسلامي. وقد ارتكب أولئك أخطاء متباينة أدت للنيل من مصداقيتهم وتراجع شعبيتهم. ففي العراق ارتبط اسمهم بالفساد المالي والإداري وتراجعت شعبيتهم حتى أدت لخروج تظاهرات واسعة ضدهم في الأسابيع الأخيرة. وفي مصر شوهت سمعتهم بسبب استعجالهم في استلام السلطة وتوجههم لاسترضاء قوى الثورة المضادة وترددهم في الالتزام بسياسات واضحة خصوصا إزاء فلسطين. ويمكن اعتبار رسالة الرئيس المعتقل، الدكتور محمد مرسي، إلى شمعون بيريز واحدة من الأخطاء الكبيرة. ولا شك أن السعي لاسترضاء قوى الثورة المضادة بمن فيهم العسكر، اضعف مصداقية الحكام الجدد. ويصارع إسلاميو تونس للبقاء في الحكم بتقديم المزيد من التنازلات التي يعتبرها البعض مبدئية، لاسترضاء النظام الحاكم الجديد ـ القديم. نصف ثورة هو ما حدث في تونس، بعد أن اقتصر التغيير على إبعاد الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، مع الإبقاء على نظامه. وربما الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الإسلاميون واستخدمت مادته ضدهم يتمثل بمسايرة رموز الإسلاميين، بعلم أو بدونه، المشروع المذهبي الذي استخدم أولا لضرب بعضهم ببعض ثم تخلى عنه مروجوه بعد أن استنفد أغراضه وأضعف شوكتهم بالفرقة والاختلاف. كان على الإسلاميين أن يتجنبوا مسايرة ذلك الخطاب الشعبوي الذي كان مصيدة لهم، وأن يتمسكوا بخطابهم التاريخي المعتدل الذي يعتبر أقوى أسلحتهم.

خامسا: ومن أخطاء الإسلاميين تغليبهم السياسة على الدعوة. فالحركات الإسلامية دعوية في جوهرها، وليست السياسة إلا جانبا من الدعوة، وليست هدفا منفصلا. ويمكن القول أن تجارب الإسلاميين العرب خلال العقد الأخير أظهرت خللا بنيويا في كيانات الحركات الإسلامية، وأكدت تغلب السياسة على الدين ليس في ثقافتهم فحسب، بل في ممارساتهم العملية وعلاقاتهم مع الجماهير.

فشعار «حاكمية الإسلام» تراجع كثيرا، ولم تتبلور له مصاديق سواء على السلوك الشخصي للأفراد أم السياسات العامة للتيارات الإسلامية التي حكمت أو شاركت في حكم بلدانها، أم على صعيد التجسيد الروحي لنقاء دعوة الإسلام. فقد كان التحول من الدعوة إلى السياسة كاملا وشاملا ونهائيا، فليس هناك مجال لأي من التنظيمات الإسلامية الكبرى في مصر أو العراق أو سوريا أو غيرها لممارسة العمل الدعوي مجددا بعد أن امتهن كوادرها السياسية ضمن أطرها العلمانية الغربية، وليس وفق مقاصد الشريعة الإسلامية.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/08/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد