آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

«بنك الريان» آخر حلقات محاصرة المؤسسات الدينية

 

د.سعيد الشهابي

يخطئ من يعتقد أن المواقف الغربية ازاء الظاهرة الإسلامية محصورة باستهداف ظواهر العنف والإرهاب والتطرف. كما لا يصيب الحقيقة من يظن أن مقولات الحرية والديمقراطية وحكم القانون والمواطنة المتساوية في «العالم الحر» تشمل المسلمين بشكل متساو مع الآخرين. ولإدراك هذه الحقائق يجب الابتعاد عن التصريحات الرسمية التي تبدو صديقة للمسلمين او متسامحة مع الإسلام. فما اكثر الحقائق على ارض الواقع التي تخالف ذلك. فبرغم «المبادئ» التي تطرح بين الحين والآخر حول طبيعة مواقف الغرب من «الآخر» فثمة تنميط بلا حدود لوصف ذلك «الآخر»، ومشاعر لا يكتشفها الا من يسعى لـ «الاندماج» في المجتمع الغربي. ومن ذلك مقولات «المواطنة المتساوية» و«التعدد الثقافي» و«حقوق الانسان»، بالإضافة للشعارات الاخرى ومنها «حكم القانون» و«العدالة».

وليس الهدف من هذا الطرح رفض ايجابيات المجتمع الغربي، ولكن من الضرورة بمكان وضع الامور في نصابها وعدم الافراط في التفاؤل او التشبث بالنظرات السطحية التي لا تدعمها الوقائع والشواهد. كما لا يمكن فصل ظاهرة التردد الغربي في مجال ترويج المشروع الديمقراطي في الدول العربية عن الظواهر المذكورة وتوجهات حضارة اليوم بعيدا عن الدين والمبادئ والقيم خصوصا ذات المنطلقات الدينية. ومن الضرورة بمكان تأكيد حقيقة مهمة ذات صلة: ان النظام الغربي يقوم على التكامل بين كافة مكوناته الاساسية: السياسة والاعلام والامن والقضاء، ومؤسسات المجتمع المدني بكافة اشكالها. هذه الدوائر تعمل ضمن نسق عام لخدمة النظام الغربي القائم والمتفق عليه ضمنا، ويتكامل كل منها مع الآخر لضمان امن النظام واستقراره.

مثال مهم لتوضيح ما سبق. في الاسابيع الاخيرة ركزت صحيفة «التايمز» البريطانية على بنك الريان الذي يعمل من مقره الرئيسي بمدينة برمنغهام وله فروع في لندن ومدن أخرى. هذا المصرف كان قد تأسس في التسعينيات باسم «البنك الإسلامي البريطاني» بهدف توفير خدمات مصرفية مؤسسة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي الذي يحرم الربا والاستغلال والمتاجرة في المحرمات. حظي البنك الإسلامي باحترام عام في القطاع المصرفي الدولي بسبب مهنيته والتزامه بالقوانين التي يفرضها البنك المركزي البريطاني، وانضباطه في معاملاته. وقبل بضع سنوات اشترت مجموعة مصرفية قطرية هذا البنك وغيرت اسمه الى «بنك الريان» وتم نقل كافة ممتلكات البنك الإسلامي وحسابات زبائنه الى بنك الريان.
وطوال الفترة الماضية لم يثر احد إشكالات حقيقية حول بنك الريان وممارساته وطبيعة عمله. ولكن في الشهر الماضي نشرت الصحيفة المذكورة «تحقيقا» حول البنك المذكور يهدف لإثارة الشكوك حول ممارساته والتحريض لاتخاذ اجراءات مهنية ضده. ما السبب في ذلك؟ التقرير المذكور يقول ان مؤسسات إسلامية كثيرة فتحت حسابات لها في ذلك المصرف، وان بعضها كان مرتبطا بعناصر متطرفة. ويثير التقرير كذلك احتمال قيام البنك بـ «غسيل» اموال لاخفاء بعض ممارساته. التقرير لم يذكر شيئا عن اية مخالفات قانونية، او ما يتناقض مع لوائح عمله التي ينظمها البنك المركزي. وفي يوم الجمعة الماضي اعادت الصحيفة نفسها الحديث عن البنك نفسه لابقائه تحت طائلة الرقابة المالية والاهتمام السياسي والامني. ولا يبدو حتى الآن ان لدى الصحيفة او محرريها دليلا ملموسا على تورط البنك في معاملات مثيرة للغط، او مرتبطة بشكل مباشر بعناصر متطرفة او إرهابية. فكل ما اثارته ان بعض المساجد والمؤسسات الإسلامية البريطانية فتحت حسابات بذلك البنك. الحقيقة المهمة هنا ان اقبال المؤسسات الإسلامية على فتح حسابات مصرفية مع البنك الإسلامي لم يكن التهرب من الضرائب مثلا او تبييض الاموال وانما بسبب التزامه بالضوابط الإسلامية في المعاملات الاقتصادية خصوصا المصرفية منها، والتزامه «الشريعة» مرجعية لتلك المعاملات.

ان استهداف بنك الريان يهدف اساسا لمحاصرة الوجود الإسلامي في بريطانيا والتضييق على مؤسساته لثني الشباب عن ارتيادها. فالسبب الاساسي الذي يتم التحقيق مع البنك بسببه، وجود حسابات كثيرة لدى البنك لمؤسسات إسلامية

يمكن القول ان احتضان المشروع المصرفي الإسلامي كان ملازما لظاهرة الصحوة الإسلامية التي ظهرت قبل نصف قرن تقريبا. فمع توسع تلك الصحوة وعودة اجيال السبعينيات والثمانينيات الى التدين، تعمق الوعي بضرورة مراعاة الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات. ونظرا لتركيز القرآن الكريم على تحريم الربا في التعامل المالي طرح مفكرو الصحوة افكارا حول نظام صيرفة إسلامي لا يتعامل بالربا. بينما يرى آخرون ان الحركة المرتبطة بالصيرفة الإسلامية بدأت على ايدي نشطاء وعلماء مثل انور قريشي، نعيم صديقي، ابو الأعلى المودودي ومحمد حميد الله في نهاية الاربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي.

ويشار الى الكتاب الشهير لعالم الدين العراقي، السيد محمد باقر الصدر، الذي اصدره في منتصف السبعينات بعنوان: «البنك اللاربوي في الإسلام» الذي طرح فيه تصوراته للمصرف الإسلامي الذي لا يتعامل بالربا. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاهتمام بمشروع البنك الإسلامي، واسهم الكثيرون في تأطير ذلك المشروع وتقعيد أسسه، وتأسست مصارف عديدة خصوصا في دول الخليج لتقديم خدمات مصرفية مستندة لاحكام الشريعة الإسلامية. وبرغم عدم وجود تجربة إسلامية خاصة في مجال المال والصيرفة، الا ان تجربة البنوك الإسلامية تبدو ناجحة حتى الآن، خصوصا مع استمرار الرغبة في التعامل معها بديلا عن المصارف التقليدية. وقد شهدت السنوات العشر الاخيرة اهتماما متصاعدا في هذا المجال. ومن أسباب ذلك الأزمة المالية العالمية التي طالت غالبية الدول إثر إفلاس بنك «ليمان براذرز» الأمريكي الشهير في عام 2008. فالبنوك الإسلامية لم تتأثر بالأزمة سوى بشكل طفيف مقارنة بالبنوك الأخرى التقليدية التجارية منها والاستثمارية. ويعزو الخبراء ذلك بشكل أساسي إلى الرقابة القوية التي تمارسها المؤسسات المصرفية الإسلامية على المشاريع التي تموّلها وفق مبدأ الحصول على هامش من الربح حسب «مبدأ المرابحة» بدلا من الحصول على سعر فائدة يتم الاتفاق عليه بين البنك والزبون.

التحقيق الذي اجرته صحيفة «التايمز» لم يتطرق لمزايا الصيرفة الإسلامية، بل يمكن اعتباره «كيديا» يسعى لتسليط الضوء ليس على بنك الريان فحسب، بل على المساجد والمؤسسات والمراكز الإسلامية التي فتحت لها حسابات مع البنك المذكور. هذا التركيز السلبي على المؤسسات الإسلامية يؤكد رفض قيم التعايش السلمي والاحترام المتبادل والاندماج برغم رفعها شعارات سياسية. ولا بد من التأكيد هنا على وجود ازمات اخلاقية وسياسية لدى المؤسسة الغربية عموما، ففي الوقت الذي يطالبون فيه المسلمين بـ «الاندماج» في المجتمعات الغربية، فانهم يرفضون هذا الاندماج ويضعون امامه عراقيل لا تحصى. وتجدر الاشارة الى ان العنصرية لم تختف تماما من المجتمعات الغربية برغم ما يبدو احيانا من ملاحقات قانونية لمن يمارسها. ولا يشعر بوجود هذه العنصرية الا العاملون ضمن المؤسسات الكبرى التي لا تختفي العنصرية عن سياساتها او تصرفات مسؤوليها خصوصا في مجال التعيينات والترقيات. فالاندماج الذي يتحدث عنه كبار الساسة لم توفر له الظروف المناسبة، بل اصبح يطرح كشعار يصطدم بالواقع عند التطبيق. فمثلا يشعر المسلمون البريطانيون انهم مستهدفون اساسا بقانون «بريفنت» الذي يتيح للشرطة تفتيش الاشخاص بدون وجود مبرر لذلك، اي ان ذلك متروك للقرارات الشخصية حتى لو لم تكن هناك شكوك حول الشخص الموقوف. كما ان مواقف بعض الساسة، ومن بينهم رئيس الوزراء الحالي عندما كان وزيرا للخارجية، تجاه المسلمين واستخدام لغة غير مناسبة للحديث معهم او عنهم، لا تتيح فرصة للشعور بالامن الشخصي او توفر الفرص المتساوية امام الجميع او تشجع المواطنة المتساوية بين الجميع. وتبدو المرأة المسلمة التي ترتدي الحجاب الاكثر عرضة للاعتداءات او التصريحات او التغطية الإعلامية السلبية، او في المدارس والجامعات. حتى اللحم الحلال يواجه معارضة من مجموعات الضغط التي تعارض ذبح الحيوان. ولولا وجود اللوبي اليهودي الذي يصر على السماح باللحم المذبوح وفق الشروط الدينية اليهودية لربما استحال حصول المسلمين على اللحم الحلال.

ان استهداف بنك الريان يهدف اساسا لمحاصرة الوجود الإسلامي في بريطانيا والتضييق على مؤسساته لثني الشباب عن ارتيادها. فالسبب الاساسي الذي يتم التحقيق مع البنك بسببه، وجود حسابات كثيرة لدى البنك لمؤسسات إسلامية. وتحت غطاء مكافحة الإرهاب وتبييض الاموال، استهدف البنك القطري المذكور، واصبح زبائنه (اشخاصا ومؤسسات ومساجد) المسلمون مهددين بغلق حساباتهم المصرفية لدى البنك.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/08/26

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد