آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

أعياد الميلاد فرصة لتعميق التضامن الإنساني

 

د. سعيد الشهابي

كما هي كافة الفعاليات الدينية والاجتماعية لن يتم الاحتفاء بأعياد الميلاد من قبل المسيحيين هذا العام بالطرق التقليدية المألوفة بسبب انتشار الوباء. فلن تكون هناك صلوات جماعية في الكنائس أو حفلات بالمناسبة او لقاءات عائلية موسعة.
العالم يعيش حقبة تاريخية غير مسبوقة في تاريخه المعاصر، يلفها القلق والترقب والخشية من المستقبل خصوصا في الجانبين الصحي والاقتصادي. الحكومات الغربية بشكل خاص، تسعى لتحقيق توازن بين أمور ثلاثة: محاصرة الوباء والحد من انتشاره، منع التراجع الاقتصادي وهذا يقتضي تشجيع العمل والخروج من المنزل، ومراعاة مشاعر المواطنين خصوصا في موسم أعياد الميلاد التي تعتبر ذروة التقارب الأسري والاجتماعي لدى المسيحيين. وقد مرّ على المسلمين خلال العام الحالي عيد الفطر وعيد الأضحى ولم يستطيعوا الاستمتاع بأجوائهما المعتادة. كما سادهم الحزن عندما لم يستطيعوا إحياء فريضة الحج بسبب الوباء. إنها المشاعر الإنسانية الفياضة التي تهفو للقاء الأحبة في كل الظروف. وكما يقال: للضرورات أحكامها. ولطالما كان هناك أمل بتراجع الانتشار قبل نهاية هذا العام بالتوصل للقاحات ضد الوباء. وربما تحقق شيء من ذلك، فهناك المصل الصيني والألماني والبريطاني والأمريكي، بالإضافة لأمصال محلية في تركيا وإيران. ولكن ما يزال القلق يمثل الحالة العامة، وما تزال أعداد المصابين والموتى بالكورونا تتصاعد خصوصا في الدول الأوروبية وأمريكا. ولذلك قررت الحكومة البريطانية تشديد الحجر في العاصمة والمقاطعات المحيطة بها وألغت قرار تخفيف القيود على اللقاءات العائلية في عيد الميلاد. ولا يبدو أن التقدم العلمي في هذه البلدان قد وفر لها حصانة متميزة، بل إن الأرقام تؤكد أن هذه الدول كانت الأكثر تضررا من حيث أعداد الاصابة والوفيات.
الأمر الواضح أن المناسبات الدينية تشتمل على جوانب اجتماعية واسعة، بل ربما تنطوي فلسفتها على ترويج التواصل بين الناس لكي تتعمق ظواهر الأخوة والحب والتعاون والتضامن. وهذه اهداف سامية تروجها الاديان عموما. ولكي يتحقق ذلك يفترض أن يكون هناك احترام متبادل بين ابناء الجنس البشري، واعتراف بحق الأفراد في تحديد انتماءاتهم الدينية والسياسية بدون إجبار أو فرض «لا إكراه في الدين». وقد أظهرت جائحة كورونا هذه الضرورات لمكافحة الوباء. فالتعاون العلمي ضرورة للتصدي الذي يهدف لمنع الإصابة ابتداء ثم علاج المصابين بعد الاصابة. وفي هذه الأثناء هناك ضرورات أخرى أهمها تفعيل مبدأ التضامن المجتمعي. ويشهد المجتمع الغربي اليوم تراجعا ملحوظا في مستويات المعيشة لأسباب شتى من بينها توقف العمل وغلق الأسواق. وربما السبب الحقيقي يتمثل بالنظام الرأسمالي الذي يحظى بدعاية كبرى تخفي التباين الطبقي المقيت في هذه المجتمعات. فقد ظهر إلى السطح المستويات المعيشية المتدنية التي تعانيها العائلات. وتقول جمعية الأطفال البريطانية ان هناك اربعة ملايين طفل يعيشون دون خط الفقر، وأن هذا العدد سيصل هذا العام الى خمسة ملايين، وأن حوالي تسعة من بين 30 طفلا في الفصل المدرسي يعانون من الفقر. كما تقول الجمعية إن نسبة الزيادة في عدد الأطفال الذين يستلمون معونات الطوارئ هذا العام تصاعد بنسبة 108 بالمائة، اي اكثر من الضعف. هذه الحقائق التي ربما كانت خافية في السابق بدأت تظهر على شاشات التلفزيون، وهي مشاهد تدعو للشفقة خصوصا أن الحديث يدور عن بلد كان اقتصاده يحتل المرتبة الخامسة عالميا قبل أن تسبقه الهند هذا العام ليصبح السادس، تليها فرنسا. هذا في الوقت الذي كان الانفاق العسكري يتصاعد حتى بلغ في العام الماضي (2019) حوالي 50 مليار دولار او ما يعادل 1.7 بالمائة من الناتج الاجمالي المحلي. وتحتل بريطانيا المرتبة الثامنة عالميا من حيث نسبة الانفاق العسكري من الموازنة العامة، وتواصل حكومة المحافظين زيادة تلك الميزانية سنويا. أما الانفاق السعودي العسكري فقد بلغ العام الماضي 62 مليار دولا او ما يعادل 8 بالمائة من الناتج الاجمالي المحلي.

مع التطورات التكنولوجية السريعة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، فإن هذا الاحتكاك البشري يقتضي التقارب والتضامن بدلا من التخندق في الدوائر الدينية أو العرقية الضيقة أو التمترس بالشعارات المتطرفة التي تؤدي للعنف المقيت

يمكن القول إن الوباء سيكون من اكبر تحديات الاقتصادات الغربية، خصوصا إذا استمر انتشاره. وحتى الاقتصادات العربية لن تكون بمنأى عن هذه التحديات خصوصا مع تراجع مبيعات النفط وتداعي أسعاره وتصاعد الحاجة لنفقات الدعم الاجتماعي. وتقول التقارير الاقتصادية إنه حتى لو تمت السيطرة عليه بعد توفر التطعيم الفاعل فسوف يستمر انكماش تلك الاقتصادات في الأعوام المقبلة، خصوصا أن آثاره الصحية والعقلية لن تنتهي بسرعة.

وفي هذه الظروف الصعبة التي يعاني المواطنون فيها من أوضاع معيشية صعبة، ستكون إنسانية الأفراد وانتماءاتهم الدينية والأخلاقية على محك الامتحان. فهناك حاجة كبرى لتفعيل قيم التضامن والأخلاق والحب على مستوى الواقع، بدعم الفقراء ومساعدة المحتاجين والتصدي لظاهرة الفقر ما أمكن. مطلوب أن يكون «العطاء» ظاهرة عملية تتجلى في البذل والانفاق من جهة والتفاعل العاطفي والإنساني مع هذه القطاعات المجتمعية المسحوقة من جهة أخرى. ومع حلول فصل الشتاء تزداد الحاجة للتفكير في مآلات الاوضاع في بلدان عربية واسلامية لا يقل أهلها معاناة وشظفا. فاللاجئون السوريون الذين يقضون الشتاء القارس في المخيمات إنما هم بشر يحتاجون الرعاية والدعم، ولو كان هناك وضع سليم في المنطقة لما احتاج هؤلاء للعيش في تلك المخيمات. ففي الوقت الذي تخطط السعودية فيه لبناء مشروع «نيوم» بالتعاون مع الإسرائيليين والأمريكيين، أليس بوسعها بناء مدينة على الحدود مع سوريا او في اي منطقة اخرى من اراضيها الشاسعة لهؤلاء اللاجئين؟ فعلى مدى السنوات العشر الماضية لو تم خفض النفقات العسكرية ملياري دولار سنويا لتوفر ما يربو على عشرين مليارا يمكن استخدامها لذلك. فأين هي روح التضامن العربي او الإسلامي؟ وماذا عن اللاجئين الفلسطينيين الذين قضى بعضهم اكثر من نصف قرن في المخيمات؟ أين هي الروح العربية التي تحتضن هؤلاء بدلا من التطبيع مع محتلي ارضهم والمتسببين في معاناة اجيال عديدة منهم؟ وماذا عن اللاجئين الافغان؟ أليس احتضانهم مسؤولية المسلمين اولا؟ إنها مسؤولية أخلاقية وإنسانية وإسلامية.
العلاقات الإنسانية يجب أن تتجاوز الانتماءات المحدودة. وفي عالم يوجهه الساسة الكبار نحو المزيد من الاستقطاب السياسي او الديني، يفترض من العلماء والنخب العمل لاعادة البوصلة للتفكير الفردي او الجمعي. ومع التطورات التكنولوجية السريعة التي حولت العالم الى قرية صغيرة، فإن هذا الاحتكاك البشري يقتضي التقارب والتضامن بدلا من التخندق في الدوائر الدينية أو العرقية الضيقة او التمترس بالشعارات المتطرفة التي تؤدي للعنف المقيت. فما أجمل الحياة عندما يسودها التفاهم والحب بين الجميع! فالخصوصيات الدينية او الثقافية يجب ان لا تعوّق مسار الحوار الديني والتقارب النفسيليس الموضوع هنا سجالا دينيا بل محاولة لايصال حقيقة «وحدة الجنس البشري» لكي ينعم الجميع بعيش هانيء وسلام على الارض. وتمثل الاعياد والمناسبات الدينية فرصا للتقارب القائم على اساس الاعتراف والاحترام المتبادلين، بعيدا عن الدوافع الشيطانية للتحاقد والتباغض. فمشكلة المواطن البريطاني الذي يعاني من الفاقة والجوع لا تختلف كثيرا عن مشكلة الجياع في بلدان المسلمين. ومسؤولية الإنسان العربي أو المسلم أو المسيحي تتسع لتشمل رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وإلغاء الحواجز النفسية المصطنعة التي لا تخدم الانسجام المجتمعي الذي يتطلع له ذوو العقلاء وعشاق السلام. ان اعياد الميلاد مناسبة لمد الجسور مع قطاع يمثل افراده نصف سكان الكوكب، وبعضهم يشارك العرب والمسلمين رقعة الأرض التي يعيشون جميعا عليها.
جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2020/12/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد