التقارير

#تقرير_خاص: المخيمات المهدّمة في الرياض… حين تُجرف الذاكرة الاجتماعية بذريعة العشوائية

عبدالله القصاب

لم تكن المخيمات التي انتشرت في شمال الرياض مجرد خيام عابرة في الصحراء، بل فضاءات اجتماعية واقتصادية نشأت من الناس وللناس، لتتحول خلال الأعوام الأخيرة إلى متنفس عائلي بديل عن صخب الفعاليات الرسمية. ومع ذلك، وجدت السلطات السعودية في هذه الظاهرة ما لا يروق لها، فشرعت في إزالتها بذريعة "العشوائية".

انطلقت عمليات التجريف يوم الإثنين 10 نوفمبر، من منطقة كبري بنبان وصولاً إلى كبري ملهم، مروراً بحي الخير شرق وغرب طريق الملك فهد، بمشاركة أمانة الرياض ودوريات أمنية، بعد أن وضعت لوحات إنذار بالإخلاء الفوري. المشهد بدا أقرب إلى حملة منظمة لإعادة هندسة الفضاء الاجتماعي أكثر من كونه مجرد تنظيم عمراني.

هذه المخيمات كانت تعبيراً عن حاجة الناس إلى فضاء طبيعي بعيد عن الضوضاء المصطنعة التي تفرضها هيئة الترفيه. كثير من الأهالي فضّلوا الجلسات العائلية والشبابية في الصحراء على حضور عروض استعراضية لا تعكس ذوقهم ولا تلبي حاجاتهم.

السلوك الشعبي هنا لم يكن مجرد نزعة بدوية أو حنين إلى الماضي، بل موقف اجتماعي صامت عبّر عن رفض ضمني لفرض أنماط الترفيه الرسمية، وعن رغبة في الحفاظ على استقلالية الذوق العام. وهو ما اعتبرته السلطة "تمرداً ناعماً" يستوجب الرد.

إزالة المخيمات ليست مجرد تجريف أرض، بل تجريف لذاكرة اجتماعية ومساحات حرية. إنها رسالة واضحة بأن أي حياة خارج "الرؤية الرسمية" تُعد تهديداً لا تنوعاً، وأن خيارات الناس الطبيعية لا مكان لها إذا لم تتوافق مع هندسة السلطة للفضاء العام.

المفارقة أن هذه المخيمات لم تكن تشكل خطراً أمنياً أو اقتصادياً، بل كانت متنفساً اجتماعياً يخفف من ضغط المدينة ويعيد للناس شيئاً من بساطة العيش. ومع ذلك، جرى التعامل معها كظاهرة غير مرغوبة، وكأنها خروج عن النص المرسوم.

إن ما يحدث يكشف عن أزمة أعمق: السلطة لا تحتمل أن يختار الناس بأنفسهم كيف يعيشون فراغهم، أو كيف يمارسون ترفيههم. فكل ما لا يدخل في إطار "الرؤية" الرسمية يُعتبر تهديداً يجب القضاء عليه.

بهذا المعنى، يصبح التجريف فعلاً سياسياً أكثر منه عمرانياً، إذ يهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع وفق مقاييس محددة، وإلغاء أي مساحة للتنوع الطبيعي أو المبادرات الشعبية.

يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لمجتمع أن يحافظ على حيويته وذاكرته إذا جُرفت كل أشكال التعبير الشعبي المستقلة؟ أم أن فرض الترفيه من أعلى سيحوّل الحياة اليومية إلى مشهد استعراضي بلا روح؟

أضيف بتاريخ :2025/11/13

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

فيسبوك

تويتر

استبيان