آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. محمد صادق الحسيني
عن الكاتب :
كاتب وباحث إيراني

آخر الحروب الأميركية قبل الانهيار كاراباخ مقتل أنقرة وتل أبيب

 
محمد صادق الحسيني
 
أياً تكن عائدية الأراضي المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا وأياً تكن الاصطفافات العرقية أو الاثنية أو الطائفية أو الدينية المحيطة بالصراع حول ناغورنو كاراباخ، وماهية الحلّ العادل المطلوب لها، فإن ما يجري في الهضبة الاستراتيجية الواقعة بين البحرين الأسود وقزوين من تصعيد لنزاع تاريخي قديم انما يهدف الى محاولة أميركية يائسة لمنع صعود الثلاثي الروسي الصيني الإيراني لعرش العالم…!
فرملة الاندفاعة الروسية الهادفة الى قيادة العالم المتعدد الأقطاب، وتوسيع حزام التخريب على إيران وتعزيز الحشد الاستراتيجي ضدّ الصين هو الهدف الأعلى والأبعد في كلّ ما يجري في القوقاز…!
لا شك أنّ جذور الصراع، بين القوى الدولية والإقليمية في مراحل التاريخ المختلفة، حول منطقة القوقاز بشكل عام ومنطقة ناغورنو كاراباخ بشكل خاص، ضاربة في عمق التاريخ.
فمنذ أن كانت هذه المنطقة جزءاً من الدولة الآشورية القديمة، في حدود سنة 800 قبل ميلاد السيد المسيح، وهذه المنطقة تشهد صراعات مسلحة بين العديد من الدول.
من هنا فإنّ الصراع الدائر حالياً، حول ناغورنو كاراباخ، هو امتداد لصراعات قديمة، دارت معظمها بين دول الاستعمار الأوروبي، وعلى رأسها بريطانيا، وبين روسيا القيصرية والامبراطورية الفارسية ووريثتها إيران الحديثة.
وفِي هذا الإطار، قامت بريطانيا بإشعال حرب، بين روسيا القيصرية والامبراطورية الفارسية، سنة ١٨٠٤ استمرت حتى سنة 1813، بهدف “وقف توسع روسيا” في آسيا الوسطى. ولكن هذه الحرب قد حُسمت لصالح روسيا واضطر شاه إيران، فتح علي شاه، لتقديم تنازلات كبيرة لروسيا، سواء عبر التنازل عن أراضٍ واسعة، كانت ناغورنو كاراباخ جزءاً منها، أو دفع تعويضات مالية أو غير ذلك.
وعلى الرغم من هزيمة حليف بريطانيا في إيران، الشاه فتح علي شاه، إلا أنّ بريطانيا واصلت تحريضه على شنّ حرب جديدة ضدّ روسيا، لاستعادة الأراضي الإيرانية، التي خسرتها إيران في حرب 1804 – 1813، على الرغم من أنّ روسيا لم تكن تريد الدخول في حرب جديدة وإنما سعت الى تثبيت وجودها في تلك المناطق والاستعداد لصدّ هجمات بريطانية، تُشنّ على أراضيها عبر عملاء بريطانيا في الجواسيس آسيا، من سلاطين وأمراء وإقطاعيين.
وتأكيداً على ذلك قام القيصر الروسي، نيكولاس الأول، بإرسال مبعوث سلام روسي خاص الى إيران، هو الأدميرال، أليكساندر مينشيكوفAlexander menshikov  حيث عرض على شاه إيران عقد حلف روسي إيراني لمواجهة الأطماع التركية التوسعية في اواسط آسيا (القوقاز). ولكن شاه إيران، فتح علي شاه، عوضاً عن الاستجابة لدعوة السلام والعمل المشترك، التي عرضها عليه الجانب الروسي، قد أقدم على خطوتين مدمّرتين لتلك المبادرة وهما:
أ ـ وضع مبعوث السلام الروسي، الأدميرال مينشيكوف، تحت الإقامة الجبرية في ربيع سنة 1826.
ب) تجريد حملة عسكرية فارسية، قوامها 35000 رجل، بتاريخ 16 / 7/ 1826، بقيادة ابنه الثاني، عباس ميرزا، الذي كان يطلق عليه اسم نائب السلطان ايضاً، واجتاح بهذه القوات منطقتي كاراباخ وتاليش المجاورة، دون إعلان حرب على روسيا بشكل رسمي. وهي الخطوة التي شكلت بداية للحرب الروسية الفارسية الثانية والاخيرة، التي استمرت من سنة ١٨٢٦ حتى ١٨٢٨، حيث تمّ توقيع اتفاق وقف الحرب بين الطرفين، بتاريخ 22 /2/ 1828، والتي سُمّيت: عهدنامه تركمنچي وبالانجليزية: Treaty of turkmenchey، والتي تنازلت الامبراطورية الفارسية بموجبها عن:
– خانات ايريفان Khanat irevan.
– خانات ناخشيڤان Khanat Nachshivan.
– بقايا خانات تاليش Khanat Talysh.
– منطقة اوردوباد Ordubad.
وبالنظر الى ما تقدّم، من حقائق تاريخية، فإنّ أهداف دول الاستعمار الأوروبي، ومن بعدها الدور الأميركي، يتمحور حول محاصرة روسيا وتهديد حدودها من كلّ الاتجاهات، سواء من الجنوب الشرقي (الامبراطورية اليابانية) أو من الجنوب الغربي (الامبراطورية العثمانية) او من الغرب (الامبراطورية الفرنسية/ نابليون) ثم ألمانيا النازية في القرن الماضي، وصولاً الى التهديدات الأميركية في الشمال الشرقي (بحر بارنتس) والمحيط الهادئ من الشرق.
من هنا فإننا نجزم تماماً، وبناءً على معلومات دقيقة، انّ ما يجري حالياً من اشتباكات حدودية، بين أرمينيا وأذربيجان، ليست صدامات عارضة ومنقطعة التواصل، مع الوضع الاستراتيجي لكل من روسيا وإيران وتركيا، وإنما هي عبارة عن جزء أو حلقة من مخطط أكبر بكثير، من المساحة الجغرافية، التي تشكل مسرح العمليات الحربية هذه. وهي بالتالي عملية لها أهداف وتداعيات استراتيجية هامة، على الصعيدين الإقليمي (إقليم وسط آسيا) والدولي، المتمثل في الصراع الدولي بين القوى العظمى في العالم.

أما عن المعلومات والأدلة، التي تؤكد انّ طبيعة هذه الاشتباكات تتجاوز كونها اشتباكات حدودية، بل انها استمرار لخطط الحشد والتطويق الاستراتيجي الأميركي لكلّ من روسيا والصين وإيران، فهي (المعلومات) كثيرة ومتشعّبة نكتفي بذكر الأهمّ منها، وهي ما يلي:
أولاً: التدخل التركي المباشر في العمليات العسكرية، الى جانب أذربيجان، وتسلمها قيادة غرفة العمليات المشتركه مع “إسرائيل” في أذربيجان، وهو تدخل ليس سرياً وليس جديداً، وقد بدأ بنقل قوات تركية جوية وبرية قبل عدة أسابيع بحجة إجراء تدريبات عسكريه مشتركة مع الجيش الأذري وإبقاء تلك الوحدات العسكري التركية في أذربيجان، وفي محيط منطقة ناغورنو كاراباخ ونقچوان بالتحديد.
وما قام به سلاح الجو التركي من إسقاط مقاتلة أرمينية، من طراز سوخوي 25؛ يوم أمس الأول إلا أبرز دليل على ذلك.
ثانياً: انّ الهدف التركي، من هذا التدخل، لا يقتصر على مؤازرة دولة لها علاقات عرقية (إثنية) مع تركيا فقط، بل ان هذا التدخل يهدف الى:
  اقامة قواعد عسكرية تركية دائمة في هذه الدولة، تعزيزاً للحشود الأميركية الأوروبية والاستفزازات الجوية والبحرية المتواصلة، من قبل الأساطيل الغربية، ضدّ الأراضي الروسية المجاورة للبحر الأسود، وكذلك تعزيزاً للدور الاستخباراتي التخريبي الإسرائيلي ضدّ إيران، انطلاقاً من القواعد التجسّسية “الإسرائيلية” الموجودة حالياً في أذربيجان والتي ستكون القواعد التركية بمثابة إضافة كمية لها وتمهيداً لتوسيع الهجوم الاقتصادي على الصادرات النفطية والغازية الروسية الى الاسواق الأوروبية، حيث تعمل تركيا على التوسع شرقاً، الى ما بعد بحر قزوين، بهدف ربط منابع الغاز في تركمنستان وغيرها من دول آسيا الوسطى بناقل الغاز الأذري التركي، الذي ينقل الغاز حالياً الى تركيا، ليصار تصديره في ما بعد الى الاسواق الأوروبية، من خلال محطات التصدير التركية. وكذلك الأمر بالنسبة لـ “إسرائيل” التي تغطي ٤٠٪ من احتياجاتها النفطية من النفط الأذري، الذي يجري ضخه إلى ميناء شيخان التركي ومن هناك الى ميناء حيفا.
  انشاء بنية عسكرية لحلف الناتو، تحت مسمّى تركي، في أذربيجان لزيادة الضغط والتهديد العسكريين على إيران، خاصة في شمالها الغربي الذي يسكنه أذريين وتركمان، تعتقد تركيا ومعها حلف الناتو، انّ من الممكن استغلال انتماءاتهم العرقية، لتحقيق أهداف جيوسياسية.
ثانياً: وفي هذا الإطار، نعني إطار تمدّد الناتو في وسط آسيا، عبر القواعد العسكرية التركية في أذربيجان، فإنّ الخطة المعدة، من قبل غرفة العمليات المشتركة، الأميركية التركية الإسرائيلية الأذرية، تهدف الى اقامة تواصل جغرافي أرضي بين أذربيجان وتركيا، عبر إعادة احتلال الكوريدور (الشريط)، الذي تسيطر عليه القوات الأرمنية، والفاصل بين جيب كاراباخ الأرمني وأراضي جمهورية أرمينيا، والممتدّ من منطقة جبرائيل، في جنوب الجيب وحتى منطقة موروفداغ في شماله. كما ان الخطط العسكرية الاذرية، الموضوعة قيد التنفيذ الآن، والتي يشارك في تنفيذها بشكل مباشر في الميدان، ثلاثة جنرالات وثمانية عشر ضابط أركان إسرائيليين، انما تهدف الى توسيع سيطرة القوات الأذرية، واحتلال شريط حدودي داخل الأراضي الأرمينيه، يمتدّ بموازاة الحدود الإيرانية، من منطقة Nrnadzor  في أقصى جنوب شرق أرمينيا وحتى منطقة Meghri / Agarak / Kuris، في أقصى جنوب غرب أرمينيا، لاقامة تواصل جغرافي مع جمهورية نقچوان الاذرية، المتصلة جغرافياً بحدود مشتركة مع تركيا، في اقصى شمال غرب ناخشاڤان، قرب نقطة الحدود التركية الأذرية في ساداراك (Sadarak).
ثالثاً: نشر المزيد من عناصر داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى، في أذربيجان تحت غطاء مساعدة أذربيجان في صدّ “العدوان” الأرميني واستعادة الأراضي التي سيطرت عليها أرمينيا في حرب عام 1994، حيث تمّ حتى الآن نقل 5300 عنصر من هذه التنظيمات، ومن عناصر داعش تحديداً، من السجون التي تديرها الميليشيات الكردية، في شمال شرق سورية، بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية والخارجية الإسرائيلية، تحت الإشراف الكامل لأجهزة الاستخبارات والجيش الأميركيين. وهي مراكز إيواء يعيش فيها حوالي 80 ألف عنصر من داعش، بينهم الآلاف من مواطني دول وسط آسيا الإسلامية، إضافة الى آلاف المواطنين الصينيين الذين ينتمون لقومية الايغور، وموطنها في شمال غرب الصين.

وهذا يعني انّ عمليات المناورة بعناصر داعش، التي تنفذها القيادة العسكرية الأميركية، بأدوات إسرائيلية وتركية، هي استمرار لعمليات المناورة الشبيهة والتي نفذها الجيش الأميركي نهاية سنة 2017، عند سقوط الموصل والرقة بشكل خاص، حيث تمّ، آنذاك، نقل الآلاف من عناصر داعش، جواً وبتمويل قطري الى كلّ من ليبيا، لتتمّ إعادة تدريبهم، ونقلهم من هناك الى دول الساحل الأفريقي والى سيناء وكلّ من: تركمنستان وأذربيجان واوزبكستان وجنوب شرق طاجيكستان وشمال شرق افغانستان، قرب الحدود مع الصين، كجزء من خطط التطويق الاستراتيجي لكل من الصين وروسيا وإيران واثارة الحروب والتوترات في تلك المناطق، وهو ما يعني انّ عمليات ضخ عناصر داعش الى أذربيجان لن تتوقف وانما سيتمّ الاعتماد مستقبلاً عليهم في تنفيذ عمليات ارهابية، في كلّ من الصين وروسيا وإيران، رغم كلّ ما يعلن من نفي تركي لنقل هذه العناصر الى تلك البلدان.
وما إعراب وزارة الخارجية الروسية، يوم 30/9/2020، عن قلقها من نقل إرهابيين ومرتزقة الى أذربيجان، الا دليل جديد ومهمّ على انّ هذه العمليات لا تزال تجري على قدم وساق، وان ذلك يجري تحت إشراف هيئة أركان عامة تتابع كل التفاصيل الميدانية المتعلقة بأماكن انتشارهم أو زجّهم في المعارك الدائرة حالياً في جمهورية ناغورنو كاراباخ.
كما لا بدّ من التذكير بسيل التصريحات الإسرائيلية، الصادرة بالأمس، حول الدور الإسرائيلي في ما يدور في كاراباخ وكذلك تصريحات المسؤولين الأذريين حول دور السلاح الإسرائيلي في العمليات التي ينفذها الجيش الأذري.
رابعاً: صحيح انّ البنتاغون وقيادة الناتو يقومون بتنفيذ كلّ ما ذكر أعلاه، من خطط عسكرية استراتيجية، ولكن هذه التحركات والمناورات لا تعبّر إلا عن فشل، أميركي إسرائيلي أوروبي سعودي، شامل وعلى طول مسرح العمليات، او مسرح المواجهة الشاملة، بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ومعهما التابع الإسرائيلي السعودي الخليجي، من جهة، وبين روسيا والصين وإيران وحلف المقاومة من جهة أخرى.
اذ يكفي ان ننظر الى مسلسل الفشل، الذي لحق بمشاريعهم العسكرية والسياسية، بدءاً بهزيمة الجيش الإسرائيلي في لبنان سنة 2006، مروراً بالهزيمة الأميركية في العراق وانسحاب الجيش الأميركي من هناك سنة 2011، وصولاً الى هزيمة مشروعهم في إسقاط الدولة السورية وإعادة احتلال العراق، عبر مشروع داعش، وما يحصل في اليمن، من هزائم متلاحقة لقوى العدوان الأميركي الإسرائيلي، بواجهة سعودية إماراتية، وما لهذا الصمود اليمني العظيم والنصر المؤزّر الناجز القريب، للشعب اليمني وقواته المسلحة، من آثار استراتيجية غاية في الأهمية، سواء من جهة المحافظة على حرية الملاحة في المضائق المائية من باب المندب وصولاً الى هرمز والى مداخل المحيط الهندي، عند جزيرة سوقطرى اليمنية المحتلة حالياً، من قبل مرتزقة بن زايد والجيش الإسرائيلي.
إذ انّ صمود اليمن وجيشه ومعهم أنصار الله قد أسهم في إفشال الجهد الأميركي الإسرائيلي في السيطرة على هذه المضائق البحرية الاستراتيجية، الأمر الذي دفع واشنطن وبروكسل وأذنابها في الشرق الأوسط لوضع الخطط الجديدة، التي تهدف الى إنشاء حزام ناري إرهابي، يطوّق روسيا من الجنوب والجنوب الغربي، ويطوّق الصين من الجنوب الغربي (جنوب شرق آسيا في الفلبين/ ابو سياف/ وفي بنغلادش وغيرها من الدول). وكذلك من الغرب، من خلال المناطق الحدودية مع افغانستان وطاجيكستان.
لا نقول انّ إطلاق هذه الخطط العسكرية هو انعكاس لضعف أميركي اطلسي جزافاً، وانما ننطلق في تحديدنا لطبيعة هذه الخطط، من كونها تعبيراً عن غياب الخطط الاستراتيجية، المرتكزة الى واقع ميداني وموازين قوى محددة وواضحة ومدروسة بدقة، وكذلك المرتكزة الى قدرات على دراسة المتغيّرات التي شهدتها الفنون العسكرية في العقدين الاخيرين بشكل خاص وعدم قدرة الجيوش الأميركية والاطلسية على التعامل مع هذه الفنون والتكتيكات، التي كان أبرزها ما استخدم في سورية، من قبل الجيش السوري وقوات حزب الله (الرضوان) والوحدات الرديفة الأخرى من إيرانية وعراقية خضعت جميعها لقيادة الجنرال قاسم سليماني، الذي اضطرت الإدارة الأميركية الى الانتقام منه شخصياً، بسبب ما لحق بها وبمشاريعها من هزائم في “الشرق الاوسط”.
إذا كان قاسم سليماني قد أخرجك من مشهد الدولة العظمى يا ترامب وحوّلك الى جمهورية موز. فإنّ آلاف قاسم سليماني بانتظار الإشارة ليحوّلوا ما تبقى من امبراطوريتك الهزيلة الى هشيم تذروه الرياح.
بعدنا طيبين قولوا الله…

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/10/03

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد