آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. عبد الحي زلوم
عن الكاتب :
مستشار بارز لشؤون البترول منذ أكثر من 45 سنة. أنهى دراسته الجامعية الاولى والعليا في الهندسة والادارة من جامعات تكساس، لويزيانا، كاليفورنيا، و هارفرد في الولايات المتحدة بعد انهاء دراسته الثانوية في القدس. عمل في الولايات المتحدة واوروبا. كما ساهم في الاعمال التأسيسية للعديد من شركات البترول الوطنية العربية في الخليج والعراق وافريقيا،

كيف أوصلونا إلى مرحلة الانحطاط كما تجلت في أزمة الأقصى..


د. عبد الحي زلوم


كيف أوصلونا إلى مرحلة الانحطاط كما تجلت في أزمة الأقصى وكيف استطاعوا أن يجعلوا 6 ملايين صهيوني في فلسطين يدجنوا أنظمة 400 مليون عربي أو 15 مليون يهودي مقابل 1500 مليون مسلم؟ السبب: أن العلم والإدارة (ومنها التخطيط) قابله الجهل وحكم القبائل والعوائل والعسكر
 
ظلت كثير من أنظمة العرب صامتة حيال أزمة الأقصى وكأن المشكلة في المريخ وتخص معبداً هندوسياً – بينما كان رد فعل البعض الأخر خجولاً يهمه إرضاء الحليف الصهيوني الجديد وإرضاء أمريكا لا إرضاء الله … وهذا يستدعي وقفة كيف انقلب العرب والمسلمين من أشداء على الأعداء رحماء بينهم إلى رحماء على الأعداء أشداء فيما بينهم.  فكيف تم خلق وبناء أنظمة سايكس بيكو وشقيقاتها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه؟

1-  بناء الدول في العصر الحديث .

من المفيد أن نذكر هنا أن غزو أفغانستان و العراق كان هدفه حسب تعبير المحافظين الجدد هو ( بناء الدول – Nation Building ) . وبناء الدول بدأ بمعاهدة Westphalia  سنة 1648والتي نقلت أوروبا من عصر الإقطاع إلى عصر الدولة (Nation State) . بناء الدول اليوم هي كبناء الشركات . كما أن بناء الشركة يبدأ بتحديد هدفها وأدوات تنفيذها و تحديد إدارتها وهيكلها التنظيمي فكذلك الأمر ببناء دول هذه الأيام . ولكي لا نذهب بعيداً فقد كان عدد سكان بعض مشيخات الخليج عدة آلاف فقط. وكان حاكم كل مشيخة شيخ القبيلة .

كذلك كان عدد سكان يهود فلسطين حين إنشاء دولة الصهاينة 600000. نقارن ذلك مثلاً بشركة وول مارت العالمية وعدد موظفيها 2.3 مليون ومبيعاتها السنوية تساوي 485  مليار دولار في سنة 2016 وهذا يساوي بل يزيد عن مجموع الدخل القومي لأربعة دول نفطية خليجية هي الكويت ،البحرين ، قطر ، عُمان أو حتى ما يزيد عن الدخل القومي لسبع دول عربية اثنان منها نفطيتان وهما العراق وليبيا إضافة إلى سوريا والأردن ولبنان وتونس واليمن.

 فلنبدأ بتسلسل الأحداث التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه :-

2-  كانت البداية غزوا ثقافياً لاوطاننا:

بدا الغزو بمحاولة تغيير الدين عن طريق التبشيرين ولما ثبت استحالة ذلك قرروا بث روح الشقاق عن طريق القومية والقبلية والإثنية ووضعوا الخطط لذلك .

قبل مغادرتهما بوسطن إلى البلاد المقدسة سنة 1820 ، شرح المبشران الشابان في كنيسة أولد ساوث في بوسطن ما عُرف بعد ذلك بـ: البرنامج التبشيري الخاص بالعالم الإسلامي. كان القس ليفي بارسونز أول المتحدثين قائلاً:” اليهود هم من علمونا طريق الخلاص.. إلهنا هو إلههم وجنتنا هي جنتهم” والأهم من ذلك أن بارسون استذكر ” الحقيقة الكبرى” وهي أن اليهود هم من زودوا الإنسانية بالمخلص الأعظم المسيح”.  وأضاف القس البروتستنتي وهو يستعد للسفر إلى فلسطين:  “نعم..  إخوتي، إن من سيشفع لكم أمام عرش الله .. هو يهودي”. وأضاف ”  بأن الوقت قد حان لتصحيح الظلم الذي أحاق باليهود و الاعتراف أنه لا يزال هناك في صدر كل يهودي رغبة لا تقهر في تعمير الأرض التي وهبها الله لآبائهم،.. تلك الأرض هي فلسطين بانتظار أصحابها الشرعيين لاستعادتها، وهو ما سيحصل… ما إن يختفي الاحتلال العثماني لفلسطين فإن معجزة فقط هي التي ستحول دون عودة فورية لليهود إليها”. .

تلخصت أجندة الحملة التبشيرية للقساوسة البروتستنت في هدفين هما تدمير الدولة العثمانية المسلمة وعودة اليهود إلى فلسطين. بعد سفر اول بعثة تبشيرية  بـ: 98 عاماً  سقطت الدولة العثمانية واحتلت فلسطين من جيش الانجليزي الذي يرأسه الجنرال اللنبي وبه فيلق يهودي برآسة فلاديمير جابوتنسكي وجيش الثورة بقيادة الأمير فيصل ورجل المخابرات البريطانية لورنس لدى دخوله القدس عام 1917. قال الجينرال اللنبي :” الآن فقط انتهت الحروب الصليبية”.

من أبرز القساوسة البروتستنت الأمريكان كان القس دانيال بليس الذي أسس الكلية البروتستنتية السورية في منتصف القرن التاسع عشر والتي غيرت اسمها سنة 1920 إلى الجامعة الأمريكية في بيروت بعد زوال الدولة العثمانية. وصل عدد المدارس التبشيرية في ثمانيات القرن التاسع عشر إلى 400 مدرسة يتربى فيها أكثر من20 ألف طالب أصبحوا نواة ما تم تسميتهم بالنخبة ليضعوهم بمناصب قيادية في مستقبل ما بعد الدولة العثمانية .

3-  تحديد الإستراتيجية لما بعد الدولة العثمانية .

عقدت وزارة المستعمرات البريطانية عدة مؤتمرات ودراسات شارك فيها علماء في السياسة والاقتصاد والاجتماع والجيولوجيا والجغرافيا السياسية لخصها رئيس الوزراء البريطاني هينري كامبل بانيرمان سنة 1907 جاء فيها :

“هناك امة تسيطر على مساحات واسعة مملؤوةٌ بمصادر طبيعية غير مرئية وهم يهيمنون على ممرات العالم . وبلادهم كانت مهد الحضارة والأديان . هذه الأمة لها دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد و تطلعات مستقبلية واحدة. ولا يوجد عوائق طبيعية تفصل بين بعضهم عن بعض … لو أتحدت هذه الأمة في دولة واحدة فسوف تتحكم في مصير العالم وسوف تفصل أوروبا عن بقية العالم. وحين الأخذ بهذه الأسباب بصفة جدية فيجب أن يُزرع جسم غريب في قلب هذه الأمة  ليمنع أن يتلاقى جناحيها  (المشرق والمغرب ) و سيقوم الجسم الغريب  بإنهاكها واستنزاف قوتها في حروب لا تنتهي.  ويمكن أن يخدم هذا الجسم الغريب كمنطلق للغرب  لتحقيق أهدافه .” أي في ثلاث كلمات : ممنوع الوحدة العربية.

حاول المستعمر التشكيك في هذه الوثيقة كعادته حال تسريب وثائق إستراتيجية تاريخية علماً بأن الحقائق على الأرض أثبتت تطبيق ما  جاء بها بحذافيرها.   وما كانت اتفاقية سايكس بيكو بعد حوالي 10 سنوات ووعد بلفور إلا تطبيقاً لهذه الإستراتيجية  وللعلم كانت سايكس بيكو بداية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا ولما كشفت الثورة الشيوعية عن تلك الوثيقة وسربتها للدولة العثمانية والتي بدورها سربتها إلى ثورة الشريف حسين ادعى الانجليز أن الوثائق المسربة مزيفة وصدّقهم الشريف حسين.

عندما تيقن الشريف حسين من خداع الانجليز بعد فوات الأوان لم يقبل بزرع كيان صهيوني في فلسطين وطالب بريطانيا بالوفاء بتعهداتها . وكان نتيجة إصراره خسارته لعرش الحجاز ونفيه إلى قبرص.

 لا يفوتنا هنا أن نبين أن حزب الاتحاد والترقي الذي خلع السلطان عبد الحميد سنة 1908 كان يدار من حلقة يهودية ماسونية حسب رسالة سرية من سفير بريطانيا  في اسطنبول السير جيرارد لاوثر  لوزارة الخارجية في لندن بتاريخ 29 مايو جاء فيه  ” بأن اليهود هيمنوا على شبكة ماسونية ومن خلالها على الإمبراطورية العثمانية.” ومما كتبه السفير البريطاني :” بأن من أبرز المشاركين في  المؤامرة الماسونية اليهودية على تركيا السفير الأمريكي في تركيا أوسكار شتراوس ( يهودي ) “.   كما كان من تلاه من سفراء أمريكيين هم من اليهود مثل هنري مورغنثا و وأبراهام إيلكوس حتى زوال الدولة العثمانية .

 تبين لاحقاً أن الكثير من أعضاء المنظمات السرية  للثورة العربية كانوا من الماسون وليس بالضرورة أنهم كانوا على علم بهدف تلك المؤسسات السرية كونها تعمل على طريقة المخابرات وبالدرجات وبالمعلومات لكل درجة حسب حاجتها فقط . وكان أكثر من تولى عهد ما بعد الدولة العثمانية أيام الاستعمارين الانجليزي والفرنسي منهم .

4- تطبيقات وثيقة بانيرمان وسايكس بيكو  بعد انهيار الدولة العثمانية

خلقت  اتفاقية سايكس بيكو  دولاً  لها حدود افتراضية  لا أساس لها لا في التاريخ ولا في الجغرافيا وتركوا  بين حدود الدولة  والأخرى وتد جحا لإبقاء  النزاع بين تلك الدول إلى يوم يبعثون.  تمّ تقسيم جغرافيا دول سايكس بيكو بحيث تكون مصادر الثروات الطبيعية تحت مناطق ضئيلة السكان بعضها لا يتجاوز بضع آلاف ودول أخرى غزيرة السكان فقيرة الموارد بحيث يستولي المستعمرون على ثروة الفئة الأولى الضعيفة والغنية بحجة حمايتها ويعطوا دول الفئة الثانية الفقيرة فتات من ثروة الفئة الأولى لقاء رهن سيادتها الاقتصادية والسياسية . ساعدهم في تحقيق هذا الهدف وكلائهم والذي تمّ تنصيبهم لإدارة تلك الدول والدويلات وشجعوهم على الفساد  باعتبار أن بلادهم هي مزارع لهم  وشجعوهم على نهب البلاد والعباد. كذلك تمّ تجهيل الأجيال في برامج تعليمية  زوروا فيها التاريخ والدين والحضارة الموروثة فنتج عن ذلك أجيال  أصبح نتائج مباراة برشلونة أهم لبعضهم من اهتمامهم بمآسي بلادهم أو حتى  بتهويد الأقصى.

5-  كان المهم أن تكون أنظمة سايكس بيكو أنظمة شمولية وهكذا كانت إما قبلية أو عائلية أو عسكرية .

قلنا أن بناء الدولة هو كبناء الشركة فهي بحاجة إلى تنظيم أداري أي نظام حكم. اختار الاستعمار نظام القبائل أو العوائل أو العسكر لأنها جميعاً أنظمة شمولية إذا قال شيخ القبيلة كلمته فعلى الجميع السمع والطاعة . عندما سأل هينري كسينجر الخبراء في المفاوضات كيف يتفاوض مع السادات قالوا له استعمل أسلوب شيخ القبيلة فالسادات له مستشارين ذوي علم وخبرة ودراية فسيكون التفاوض معهم صعباً . اتفق مع السادات وارضي غروره وخد كل شيئاً منه .وهكذا كان عندما وافق السادات على شروط فك الاشتباك العسكرية دون الرجوع إلى رئيس الأركان عبد الغني الجمسي اعترض الجمسي على تلك الشوط في اجتماع موسع  فقال له السادات ( اسكت يا ابني احنا اتفقنا ).

لم يكن نظام القبائل والعوائل والعساكر محصوراً على الملكيات بل حتى على ما يسمى بالجمهوريات المتوارثة بل وحتى على تلك التي تدعي أن لها تنظيماً حزبياً كحزب البعث في العراق وسوريا . كانت آلة الحزب في تلك البلدين تدار من قبائل التكريتين في العراق وقبائل العلويين في سوريا ولم يمنع كون البلدين تحت راية حزب واحد بأن يصطف النظام السوري مع الجيوش الأمريكية ليدمر العراق كما في سنة 1991 . لا اشكك في وطنية أحد وخصوصا صدام حسين ولكن لا ينتج عن أي نظام شمولي  خيراً .

كذلك في نظام العسكر. لا يشك أحد في وطنية جمال عبد الناصر وصدقه وحسن مبتغاه لكن حكمه في النهاية كان  حكماً شمولياً لعصابة من العسكر قاد خلالها عبد الحكيم عامر الجيش إلى هزيمة شنيعة لأنه صديق العمر كما تمّ توريث أنور السادات ليصبح الرئيس من بعد عبد الناصر علماً بأنه كان يتقاضى راتباً من الــCIAعن طريق كمال ادهم . فقام السادات بتحويل المحاولة الاشتراكية إلى أقذر أنواع الرأسمالية و اعتبار إسرائيل عدواً للأمة لتصبح ذخراً استراتيجياً لما جاء من بعد عبد الناصر من الرؤساء  العسكر .

دقائق التاريخ  عقود وقرون. جاءنا التتار والمغول ثم هزموا وكانت حضارتنا في النهاية أقوى من جبروتهم فاعتنقوا حضارتنا بل وحاربوا من اجلها . الهزيمة  عندما  نيأس  ولكن هذه الأمة لا تيأس . صمد اليوم نفر قليل من المؤمنين في غزة في أطول حروب الكيان الصهيوني وخرجوا منتصرين. كان هؤلاء من أهل السنة. نفر أخر مؤمن في جنوب لبنان حقق أكبر نصر عربي وأول هزيمة للكيان الصهيوني حيث انسحب بعده العدو بلا قيد ولا شرط. وكان هؤلاء من الشيعة.

صنف الأعراب هؤلاء وهؤلاء بأنهم إرهابيين إرضاء لأعداء الله والإنسانية. إلا أنهم هم لخاسرون.

جاء ربيع عربي من جماهير غاضبة على تلك الأنظمة وأخواتها وتمّ اختطافه . إلا أن تحت الرماد ناراً حامية ستولد ربيعاً آخر يحرق اليابس لا الأخضر ويُرجع ألامه إلى وحدتها وحضارتها وتاريخها.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2017/07/26

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد