آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. عبد الحي زلوم
عن الكاتب :
مستشار بارز لشؤون البترول منذ أكثر من 45 سنة. أنهى دراسته الجامعية الاولى والعليا في الهندسة والادارة من جامعات تكساس، لويزيانا، كاليفورنيا، و هارفرد في الولايات المتحدة بعد انهاء دراسته الثانوية في القدس. عمل في الولايات المتحدة واوروبا. كما ساهم في الاعمال التأسيسية للعديد من شركات البترول الوطنية العربية في الخليج والعراق وافريقيا،

كيف يُمكن لأحد ‌‏أن يصدّق أنّ ‏أكبر قوة عسكرية واقتصادية في التاريخ أوهى من بيوت العنكبوت؟

 

د. عبد الحي زلوم

كانت آخر فقرة في كتابي نذر العولمة (1998) “ولقد علمنا التاريخ قديمة منذ أيام الروم والفرس وحديثه قبل بضع سنين في الاتحاد السوفييتي ان كثيراً من الدول العظمى تكون في حقيقتها أوهى من بيوت العنكبوت.”

كان الاتحاد السوفيتي ‏قوة عالمية يمتلك ترسانة نووية تستطيع تدمير العالم عدة مرات وصواريخ عابرة للقارات بل كانت أول من أرسل رجلاً إلى الفضاء ، ولكن كان الاقتصاد مقتله وهو اليوم أيضا مقتل الإمبراطورية الأمريكية.

 تأتي قوة الولايات المتحدة عن طريق إصدار دولارات (مزيفة) لانها خالفت الاتفاقات الدولية من اصدار الدولار بمقدار ما لديها من ذهب، فقررت بشكل أحادي الغاء ذلك الاتفاق وان تطبع دولارات كيفما تشاء وبدون غطاء، يمكننا لتبسيط الصورة دون أن نفارق الحقيقة أن نعتبر ان الدولارات التي طُبعت فوق ما لديها من احتياطات من الذهب كانت دولارات مزيفة (مخالفة لاتفاقات الشرعية الدولية). ولبيان ذلك ونتائجه اقول ما كتبته قبل 22 سنة وما قلته في برنامج وثائقي في قناة الجزيرة عن كتابي (امريكا بعيون عربية) ان الالغاء الاحادي لتعهد الولايات المتحدة بابدال أي كمية من الدولارات بسعر ثابت كان 35 دولار للاونصة ليصبح سعراً عائماً دون أي التزام من الولايات المتحدة فقلت ان ما قامت به كان أكبر سرقة في التاريخ. وأعطيت مثالاً بسيطاً. فلنفرض ان مدخراتي كانت 350 دولار ادخرتها بناء على اتفاقية دولية اني استطيع ابدالها بالسعر الثابت فكانت ادخاراتي تساوي 10 اونصات من الذهب. عندما تخلت الولايات المتحدة عن تعهداتها وصل سعر الذهب بعد فترة وجيزة الى 350 دولار للاونصة. اذن مدخراتي اصبحت اونصة واحدة من الذهب بدل 10 فمن سرق مني 9 اونصات من الذهب؟ وعلى ذلك قس على العالم كله.

كانت سياسة الولايات المتحدة التوسعية وحروبها في كل مكان من كوريا وحتى فيتنام سبباً في حاجتها الى الدولارات فوق قدرتها الاقتصادية الحقيقية. وزاد الطين بلّة انها اصبحت سنة 1970 مستوردة للنفط بدلا من مصدرة له مما زاد عجوزاتها التجارية. ولقد أجبرت العالم على شراء النفط بالدولار فقط وعندما ذهب احمد زكي اليماني الى ايران يستفسر لماذا علينا رفع السعر 400% واجبار العالم على شراء النفط بالدولار قال له شاه ايران (اطلب من مليكك ان يسأل هنري كيسنجر).

نشأ نظام مالي امتصاصي طفيلي يعتمد على (دولارات مزيفة) منفصلة عن الاقتصاد المنتج بل متطفلة عليه. وكان هذا النظام يعتمد على ارهاق الدول بالديون خصوصاً الدول النامية التي تستدين لشراء النفط والبضائع الاخرى بالدولارات المزيفة ولكن عليها ان تبيع انتاجها من السلع بالدولار وهي سلع حقيقية واعادة هذه الدولارات الى النظام المالي الذي يتحكم فيه شارع المال في نيويورك ( وول ستريت ). أليست هذه عملية نهب وسطو وسرقة ؟ كذلك كانت دول النفط خصوصا والدول الصاعدة كاليابان والصين ترجع فائض ما لديها من دولارات الى الولايات المتحدة خصوصا كسندات خزانة لسد عجوزات الولايات المتحدة والتي كانت تنتج دائما عن زيادة نفقاتها عن دخلها الحقيقي فوصل الى ارقام اسطورية.

ثم بدأ شارع المال وول ستريت باصدار ادوات مالية بداية باسم ( junk bonds) (وكلمة junk تعني خردة ) مما سبب انهيار سنة 1987 ثم تم استبدالها بادوات مالية اسمها المشتقات  (derivatives) كانت حقيقة هي ادوات مالية ( خردة ) ولكن كانت مافيا وول ستريت تصنفها كأدوات مالية ممتازة. من الغريب ان اكثر الناس لا تعلم ان شركات التصنيف مثل “ستاندرد آند بورز” و”موديز” و”فيتش” هي شركات خاصة تمتلكها وول ستريت وهي التي تصنف الشركات بل والدول.

ثم جاءت ازمة ( dot com ) سنة 2000 مما سبب انهيار سوق اسهم التكنولوجيا نازداك الى اقل من النصف وانهيار شركة Enron وشركة التدقيق ارثر اندرسن. تم حل المشكلة بضخ المليارات المزيفة ثم كبرت الفقاعة فجاءت من ازمة العقارات التي انفجرت سنة 2008 وتبين حينها ان هناك من الادوات المالية الفاسدة التي اصدرها وول ستريت ما يزيد عن 360 تريليون دولار وهي تساوي 30 مرة اكبر من الاقتصاد الكلي الامريكي في تلك السنة او او حوالي 7 مرات حجم الاقتصاد العالمي المنتج بأكمله ! انهارت المنظومة المالية الامريكية وكثير من الشركات فاشترت الحكومة أسهمها بدولاراتها المزيفة تماما كما قامت بحل الأزمات للسنوات السابقة بدولاراتها المزيفة. الا ان الازمة قد تم تأجيلها وجاء من يكشف اقتصاد الولايات المتحدة على حقيقته انه يعيش على اكاذيب واوهام وسرقات وعمليات سطو تتواضع امامها عمليات المافيا المنظمة.

في كل ازمة كانت الدولارات المزيفة تتبخر وترجع اسعار الاسهم لتعكس حجم الاقتصاد الحقيقي المنتج فالدولارات المزيفة جاءت من الهواء وترجع اليه في كل ازمة.

والفقاعة كانت تكبر ازمة بعد اخرى الا ان معالجتها كانت بضخ دولارات مزيفة اخرى حتى كبرت الفقاعة وهي على وشك الانفجار الى غير رجعة.

ظنّت الولايات المتحدة انها بإنشاء اكبر قوة عسكرية في التاريخ ونشرها في 800 قاعدة في الكثير من دول العالم ونشر حاملات طائراتها واساطيلها في البحار ستحمي اقتصادها المأزوم الذي يعيش فوق قدرته الانتاجية ونظامها المالي الذي يعتمد على الاكاذيب والادوات المالية الفاسدة بأنها تستطيع ان تحافظ على وضعها بنهب ثروات العالم مقابل دولارات بلا غطاء. لكن جاء في العالم من قال كفى سواء من النواحي الاقتصادية ( الصين ) او العسكرية ( روسيا ) او السياسية ( محور المقاومة ). ففقدت الولايات المتحدة صوابها وصارت تفرض العقوبات ذات اليمين وذات الشمال. وكانت منظومة العقوبات تعتمد في اساسها على الدولارات الزائفة وقنوات انتقالها ما بين دولة واخرى عبر انظمة ومؤسسات تسيطر عليها الولايات المتحدة باعتبار ان عملتها هي عملة الاحتياط العالمي والذي تتبادل به الدول تجارتها الخارجية.

أكثر ما افقد الولايات المتحدة صوابها ان احاديتها وهيمنتها على العالم لم تدم طويلاً. فالكذب حبله قصير. صعدت الصين لتصبح عمليا اليوم صاحبة اكبر اقتصاد في العالم. فعند تعديل الناتج القومي الكلي للاقتصاد الامريكي حتى بحجمه سنة2018 فقد كان الناتج الامريكي وفق لتعادل القوى الشرائية 21.4 ترليون دولار. بينما الناتج الصيني وفقا لتعادل القوى الشرائية 27.3 ترليون دولار. هناك فارق 6 ترليون دولار ، هذا الناتج الحقيقي القائم على القيمة الحقيقية للمنتج من السلع والخدمات.

كانت الصادرات الصينية 2465 مليار دولار عام 2018 بينما صادرات الولايات المتحدة 1600. مديونية الولايات المتحدة غير مسبوقة في التاريخ حيث وصلت الى 22 تريليون دولار عام 2018 مما يفقد عملتها شرعية ان تكون عملة الاحتياط العالمي. وللمقارنة فديون الدول النامية والناهضة كلها بما فيها الصين تساوي 7.1 تريليون دولار.

يعني هذا ان الولايات المتحدة هي دولة مفلسة حتى بمعايير صندوق النقد الدولي!

اكثر ما يقلق الولايات المتحدة هو سحب بساط شرعية دولارها كعملة الاحتياط العالمي ولقد بدأت العديد من القوى العالمية كالصين وروسيا بالتبادل التجاري لعملاتهما المحلية والكثير من الدول الاقليمية كإيران وتركيا بالامر نفسه مما سيجعل من الدولار عملة كبرى شأنها شأن العملة الصينية او اليابانية ويفقدها مقدرة الطباعة بلا رقيب فوق قدراتها الانتاجية.

الامبراطورية الامريكية تعيش اخر ايامها كقطب احادي مهيمن للمحافظة على نظام امتصاصي يعتمد على السرقة والسطو والاكاذيب. تستطيع الولايات المتحدة ان تعيش داخل حدودها وتؤمن حياة كريمة لشعبها دون هذا النظام الساقط الذي يصب ريع نهبه في نهاية الامر لتصبح عصابة من 400 ملياردير امريكي يمتلكون اكثر من نصف الشعب الامريكي ونتج عن هذا انقسامات عمودية وافقية داخل المجتمع الامريكي مما سينتج عنه الانهيار الاكيد لهذا النظام الحالي واستبداله بنظام اخر عادل لشعبه وللشعوب الاخرى.

أمّا في منطقتنا فإن امريكا الصغرى ( الكيان المحتل ) يرتبط ارتباطا عضوياً بالامبراطورية الامريكية والتي هي (اسرائيل الكبرى )، وعند انشغال الولايات المتحدة بنفسها لحل ازماتها فان هذا الكيان المصطنع سينهار نتيجة تناقض نسيجه الداخلي من عرب وحاردييم لا يؤمنون بشرعية الدولة والذين سيمثلون الاغلبية في خلال عقد او عقدين من الزمان فقط ، بالاضافة الى انهيار نظرية الامن للكيان التي تعتمد على جيش شعبي اساس استراتيجيته الحروب القصيرة والتي لم تعد ممكنة وكذلك حربه خارج حدوده دون ان يتأثر الداخل بتداعيات الحرب وهذا الامر قد انتهى حيث ان صواريخ المقاومة ستضرب كل بقعة في ذلك الكيان الذي انشأ ضد طبيعة التاريخ والجغرافيا.

ولبيان هشاشة الوضع الامريكي على سبيل المثال في مجابهة جائحة كورونا اقتصادياً فإن حوالي نصف المشروعات التجارية والصناعية في الولايات المتحدة لم تستطع ان تدفع الايجارات الى اصحاب العقارات بما لذلك من انعكاسات على تلك الشركات والبنوك اضافة الى العديد من القطاعات الأخرى كقطاعات شركات الزيت الصخري التي انهار الكثير منها. يضاف الى ذلك ان 42 مليون امريكي قد سجلوا انفسهم كعاطلين عن العمل.

تعتقد العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي أن التباطؤ الاقتصادي هو أعمق مما كان متوقعاً في ابريل 2020 وان التعافي سيكون ابطأ مما توقعه الصندوق ايضا في سنة 2021.لا حاجة لنا لنؤكد ضعف ادارة حكومة الولايات المتحدة لازمة كورونا صحيا وتأخر معالجتها ، ذلك لانها وضعت مصالح وول ستريت قبل حياة فقراءها الذين كونوا اكبر نسبة من ضحايا الجائحة. كذلك تقوم شركات الولايات المتحدة بالقاء موظفيها الى الشوارع حتى بدون انذار كما حصل في هذه الازمة وبذلك ارتفعت نسبة البطالة من 4.

5 % في بداية الازمة في مارس الى 18% اليوم، بينما كانت نسبة البطالة في المانيا في مارس 4% فارتفعت الى 5% فقط حيث ان الدولة تكفلت ب 70-80% من رواتب من كان من الممكن الاستغناء عن خدماتهم نتيجة للتباطؤ الناتج عن الجائحة.

ان الدولتين المارقتين الولايات المتحدة ورأس جسرها في فلسطين يعيشان ازمة حقيقية وان قيادة الكيان تحاول الهروب الى الامام وهي تعلم ان قادمها من الايام عصيب وان مشروعها الاستيطاني آيل الى زوال. فلذلك يقوم الصهيوامريكيون بفعل كل ما بمقدورهم من عقوبات وضغوط وتجويع للمقاومين لكن المقاومة ستنتصر بالرغم من الضغوطات الهائلة فالايام والتاريخ والجغرافيا وموازين القوى المتغيرة محلياً وعالمياً معها. ” إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ”.


صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2020/07/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد